ما الذي يجعل الأغلبية منا تفضل العيش في المدن الكبرى على السكن أو البقاء في القرى والمدن الصغيرة؟ هل هو حب المال والمظاهر، أم هو الولع بالمتع والترفيه، أم التعلق بزخم وتنوع الحياة الذي تعج به المدن؟!. والذي يدعوني إلى هذا التساؤل أنه ما زال الشباب مفتونا بالانتقال من القرية إلى المدينة، مع أن المدن مكتظة ومليئة بالضغوطات الحياتية اليومية، والتي شعارها (اللهث) وراء الحياة.
في المدينة نحن نرى المشاهد اليومية لاكتظاظ السيارات في الشوارع والطرقات والزحام بين الناس. ونحن نعدو منذ الصباح إلى المساء وراء الوظيفة أو المؤسسة أو الشركة أو المدرسة أو الكلية، والكل يركض على عجل كالباحث عن الحياة أو كأن الدنيا سوف تنتهي في بضعة أيام.
الحياة في المدينة فيها الكثير من الصخب والقليل من الهدوء! وحتى مع عطلة نهاية الأسبوع ستجد الناس مكتظة في المطاعم وفي المولات والمقاهي، والطرقات، فالكل على عجل ليستفيد من كل لحظة. وكأن الحياة دولاب يدور ونحن في داخله. وقد قال أحمد أمين: «في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس ولا جمال القمر، ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي». فإذا كنا نركض ونهرول في وسط الأسبوع وفي نهايته، فمن أين يأتي التأمل والتفكير؟!.
الملاحظ أن الحياة في المدينة خانقة وتسبب الإرهاق النفسي والبدني! ولعل الهجرة العكسية تحل جزءًا من المعضلة كذلك الحد من هجرة الريف إلى المدن. إننا اليوم نعيش في عالم نستطيع بضغطة زر من الجوال الحصول على الخدمات والمنتجات كالمصباح السحري (شبيك لبيك)؟!. واليوم أيضا نستطيع أن نعمل خلف شاشات الكمبيوتر والإنترنت لقضاء جل الأعمال اليومية. ويمكننا كذلك إنجاز اللقاءات والاجتماعات والأعمال عن طريق المحادثات الصوتية والمرئية المباشرة. أليس ذلك هو المستقبل الذي أصبح الآن هو بين أيدينا؟! الحقيقة أن الزمن قد تطور كثيرا من الناحية التقنية، وعلينا أن نستغل ونستفيد من هذا التطور بشكل أكثر فعالية في الحد من الهجرة إلى المدن والاكتظاظ السكاني.
من المعلوم أن أسلوب حياة المدن ينتشر فيه ظاهرة البدانة والأمراض الجسدية والنفسية، والإرهاق والتعب، والزحام والضوضاء، والتلوث السمعي والبصري والبيئي، كل ذلك قد اجتمع في أحضان المدن. يقول أنيس منصور: «ولذلك يصاب سكان المدن بكل أمراض الحضارة: الاضطرابات المعدية والمعوية.. وأوجاع القلب والمخ والسكر والضغط الطالع والنازل وتسوس الأسنان وآلام المفاصل وتقصر أعمارهم!».
في السابق لم تكن الوسائل ولا الإمكانيات متوافرة للشباب وأما اليوم، فالجامعات مثلا منتشرة في معظم المناطق والمحافظات. وهو أمر إيجابي ومهم في نشر المعرفة والتعليم، ورفع مستوى الوعي العام، وهو أيضا يخفف من الضغط السكاني على المدن. وكان من أسباب زحمة المدن والهجرة إليها تواجد معظم الدوائر الحكومية وكذلك كبرى الشركات والمؤسسات. وأما اليوم فأكثر الإجراءات والأعمال في القطاع العام والخاص هي أونلاين، وذلك يخلق وظائف وفرصا جديدة وكثيرة للعمل عن بعد. بالإضافة إلى توفر خدمات التوصيل من عدة شركات لكثير من المنتجات والخدمات وهي تغني عن الترحال والهجرة.
وبناء على ذلك، على الشباب أن يفكر جديا في البقاء في المدن الصغيرة والقرى حيث التعليم متوفر بالقرب منه (الجامعات) وكذلك الخدمات، وأن لا يغتر بأضواء وبهرجة المدينة الساطع ولا بزخرفها. فهدوء القرى والمدن الصغيرة هو ألطف للنفس وأقرب إلى الطمأنينة والصحة.
وإن أبيت أيها الشاب أن تقبل المشورة وغرتك زينة المدن ومظاهرها البراقة! فلا أقل من أن تسكن في القرى والريف على أطراف المدن، فذلك أخف على جيبك وأصفى لعقلك وأصح لبدنك.
abdullaghannam@