الحياة مليئة بالنماذج الإيجابية والمثالية التي تعزز دور الفرد في أن يكون إضافة حقيقية لمجتمعه، وكلما كان الفرد ملتزما بإنسانيته ومشغولا بتقديم نموذج حسن يذكره الناس ويلتمسون فيه أفضل ما في البشر أصبح قدوة ومثالا رائعا ونبيلا لإنسانيتنا وطبائعنا الجميلة والأصيلة التي تستحق أن نقف عندها ونحيي من خلالها كل أولئك الرائعين الذين يقدمون هذا الجمال الإنساني والروح الكريمة التي تنعكس خيرا كثيرا على مجتمعنا.
ذلك النموذج الإنساني يحضره وأنا اتابع سماحة ونبل والد الطفل معتز الحارثي "رحمه الله" الذي قدم تنازلا رسميا عن المتسبب في وفاة ابنه لوجه الله، فهو بهذا السلوك المتسامح فتح مدرسة إنسانية كبيرة في عقولنا جميعا باسم ابنه الراحل، وكثيرون سامحوا من قبل سواء في دم أو غيره، ولكن المبادرة هنا ملهمة بالنظر إلى محيطها حيث توفي الابن في مدرسته، والمدرسة مؤسسة تربوية وتعليمية، فضاعف بذلك قيمة الدرس الذي نحصده من الواقعة.
وقد كان من الطبيعي مع حدوث الوفاة في مؤسسة تربوية وتعليمية أن يبادر معالي وزير التعليم الدكتور حمد آل الشيخ لتقديم واجب العزاء لأسرة ذوي الطالب وشكرهم على موقفهم النبيل بالعفو الذي يؤكد تسامح أبناء المجتمع وغرسه في النفس والعقل الاجتماعي، وحين يقوم المسؤول التعليمي الأول بهذه الزيارة فإنها تأكيد لتواصل الجميع في جميع المناسبات، وفيها تخفيف عن المصاب الذي نتألم له جميعا.
ورغم الألم ومشاركتنا له لأسرة الطفل معتز، إلا أن والد هذا الابن وأسرته منحونا جمالا إنسانيا راقيا ورائعا يترفع عن الانتقام وأخذ الحق بالقوة أو العوض المادي الذي أرهق الكثيرين وأصبح ضربا من التجارة في المغالاة والطلب، فيما لو احتسبوا مثل الوالد الحارثي وأعملوا التسامح في السلوك فإنهم يجدون عند الله ما هو أجزى من أي عوض، وعند الناس هذا الرقي الذي يعكس النبل والأصالة الإنسانية التي هي أساسنا وجذرنا.
حين تكون متسامحا على نسق الوالد الحارثي فإنك تضيء مساحات واسعة من الإنسانية، وتمنح الآخرين رؤية مغايرة وجديدة للحياة، فيها كثير من صفاء النفس واليقين والاحتساب والقناعة الحقيقية بأقدار الله، وذلك ليس سهلا داخل النفس وإنما صعب للغاية، ولكن لا يفعله إلا الأقوياء، والحمد لله أن منح والد معتز كل تلك القوة الإنسانية والحضور الفريد ليقول كلمته بأقل العبارات وأجملها في مثل هذه المواقف "سامحت وعفوت لوجه الله" من فوره ولم يتردد أو يماطل أو يتأخر، وهنا تكمن القوة ورقي الأخلاق ونبل الذات.
رحل معتز ولكن ذكراه تبقى بما فعل والده وألهم كل من سمع أو قرأ الخبر بعدا جديدا في اكتشاف قيمة التسامح والعفو، وهي من المعاني الأساسية في تركيبتنا البشرية ولكن تجاهلها أو إغفالها أو نسيانها يجعل البعض بعيدين عن فكرة الرقي الإنساني، بغض النظر عن الحق فيما يكون لهم، لأنه طالما هناك مساحة للعفو الذي أجره على الله، ينبغي أن نميل إليه وأن نتخذه عنوانا لسلوكياتنا وتصرفاتنا فما يأتي بالتسامح والعفو أكبر وأكثر قيمة.
لقد قدم لنا والد الطفل معتز "يرحمه الله" لمحة مشرقة عما ينبغي أن نكون عليه في أصعب المواقف التي يمكن أن تعيشها النفس البشرية بفقدان فلذة الكبد، وتساميه هذا لا نملك معه سوى الدعاء لله بأن يتقبل ابنه وأن يفيض عليه من اليقين ما يرضيه، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وكل التقدير والامتنان على درس التسامح العظيم الذي قدمه لنا وجعله راية ترفرف في أعلى محصلتنا الإنسانية.