انطلقت الثورة بدون مقدمات بعد السفر المفاجئ للرئيس بن علي، وتتالت الأحداث بشكل سريع في البلاد التونسية، وكانت العاصمة تونس وشارع بورقيبة ومقر وزارة الداخلية، ومقر التجمّع التونسي لشغل أماكن يصعد معها لهيب الثورة وحماس الناس، عشت الأشهر السبعة الأولى من عمر الثورة مع التونسيين في المطاعم والمقاهي، وفي المنازل أوقات الحظر المشدد على التجوال وعشت معهم أيضًا مشكلة النفايات أو ما يُعرف باللهجة التونسية بـ«الزبلة» في الأشهر الأولى أصبح هناك شعور لدى الجميع بالظلم، وسادت حالة من اللا مبالاة حتى لدى أهم اشخاص في المدينة وهم عمال النظافة، بحيث أصبحت أكوام القمامة تملأ الشوارع، وتفسد المنظر العام وتنشر الروائح الكريهة، والمرض بين الأحياء.
كان الناس يستعدون بعد عصر كل يوم للتوجّه لشارع الحبيب بورقيبة لمعرفة تطورات الثورة، وكان البعض يجتمع مع آخرين من سكان الحي للتعاطي مع مشكلة الزبالة، السياسة والسلطة التي تفرض قيمًا ومعايير معيّنة عندما تغيب، تغيب معها مؤشرات كثيرة تجعل الناس أمام حقائق عليهم مواجهتها، أو اختراع سلطة جديدة تغنيهم عن التفكير والتعامل مع أبسط الأمور ومنها مسألة الزبالة.
بعض الحلول التي كتبت عنها الصحف أن يدفع أهل كل حي مبالغ مالية تُعطى لأصحاب حاويات يأتون بعمالهم لنقل الزبالة، ولأنه ليس كل سكان الأحياء لديهم القدرة على الدفع المادي، فقد رأى البعض إحراق الزبالة في مكانها منعًا لانتشار أخطار بقائها وتعفنها، فأصبحت أعمدة الدخان تنطلق في كثير من أحياء العاصمة وظهرت المدينة للكثيرين لأول مرة بصورة مؤسفة، ومحزنة، بل خانقة. وكما يعرف الجميع لم تعانِ تونس من هذه المشكلة وحدها، بل شهدت عواصم غيرها أزمات مشابهة، أشهرها العاصمة اللبنانية بيروت التي غدت الزبالة مشكلة سياسية فيها من الدرجة الأولى، ولم تسلم من تلك المحنة بغداد، ولا دمشق ولا القاهرة التي لا تزال تعاني إلى عهد قريب من طاعون الزبالة، حتى غدا السيد نقيب الزبالين في مصر وجهًا إعلاميًا من كثرة تردده على الفضائيات.
باختصار سوء السياسة يكون في كل شيء حتى في أمور النظافة العامة، أعود لموضوع الدولة الإقليمية التي حوّلت مكبات الزبالة إلى جنات وعيون، لأقول: إنها كانت تعاني مثل دولنا العربية قبل أن يفتح عليها الله بتحويل مكبات النفاية إلى مروج خضراء منذ 11 عامًا تقريبًا. المعضلة في بلداننا العربية أنه لا يُستفاد من حجم هذه المخلفات رغم أن دولًا مثل الصين تشتري الزبالة من دول العالم الثالث لتعيد تصنيعها، وبيعها لهم من جديد.