قد يقول قائل من المنافحين لهذه الفوضى: إن الجيد يفرض نفســه، والبقاء للأصلح، وهلم جرا من بعض الأقوال أو الأمثال والحكم التي يتم حشرها قسـراً في غير مواقعها. ولكني أقول لأولئك، لا.. ليس كذلك.. فلا الزمان ولا المجال ولا الكيفية التي قد تجعلنا نصدق بمثل ذلك. ماذا نقول للأجيال الناشئة التي لم تستمع آذانها ولم تر أعينها ولم تتبلور ذائقتها على غير ما نشــأت عليه من تلك الرداءة والخلط والخليط. كيف يستطيع جيل انطبع في ذائقته الأدبية أن الشعر هو أن تقول شيئاً وتعني به شيئاً غيره وأن الشعر هو أن تجمع مفردات متضادة في المعنى لتعني بها معنى واحدا أو أن الشعر أن يصف الشاعر (المدعي) نفسه وهو يستمتع برمال شاطئ الشمس على ضوء ليال العشرين في هدؤ نهار المدينة وصخب ليل الصحراء؟
هناك موقف طريف حدث مع أحد أولئك الذين يأخذون الكلم على عواهنه حيث استمع الى أحد نقاد الشـعر ذات تحليل لقصيدة أحد الشـعراء فقال في إحدى تعريفات الشعر ((بأن الشعر الحقيقي هو ما يجعلك تتفاعل معه ويحرك لدى السامع ما يثير شجونه أو دموعه أو سروره أو حتى ضحكه)). الى هنا والحديث لا غبار عليه، إلا أن هذا المســتمع من النشء المبتلى اســتمع ذات مرة الى أحدهم وهو يلقي هراء لا تنقصه الثقة الكاملة بالنفس والإلقاء بكل بجاحة لما أســماه قصيدة، بعد أن قدم لنفســه بمقدمة نرجسـية يحاول تصنع التواضع خلالها، حيث قال: هناك شـعراء مثلي أو حتى أفضل مني ولكن الجمهور العزيز أصر على تســميتي ((شـاعر......)) وأسـمى البلدة أو القرية التي بزغ منها. ثم ألقى ما يمكن أن يســمى أي شيء غير طأي نوع من كلام الأدب، دع عنك الشــعر. كان كلاماً ساذجاً وســطحياً جداً ومفردات تائهة وغير مترابطة لا بالمعنى ولا بالســياق إضافة الى فقدان الوزن والقافية وحتى التفعيلة. أقول لا شيء أبداً مما يمكن تسـميته أدبياً. ومع ذلك كان هناك جمع ليس بالقليل من حضـور ذلك الملـتـقى يقاطعه بالصفير والتصفيـق وتـرديـد بعـض كلماته، ومـا أن انتهى من (دوامته) تلك حتى ضج المكان بالتصفيق وكلمات الثناء والإطراء لعبقرية ذلك الكائن.
كنت منذهلاً لما سـمعت ورأيت، وأخذ الشك بي مأخذه بأن الزمن قد تخطاني ولم أعد أفقه في الأدب الجديد شــيئاً، فربما اســتحدث شــيئاً في الشـعر أو الأدب بشـكل عام وعرفه الناس وأنا قابع في قوقعتي على الأدب والشـعر الشعبي الذي لم أســتطع فهم الجديد أو الحديث منه، فاســتجمعت قواي وشجاعتي الأدبية وقلت في نفسي ولما لا أسأل عما لم أســتطع به خبراً؟ والتفت الى شـاب كان يجلس بجانبي ممن كان يشارك بكل وسائل التشجيع والتعبير عن الإعجاب لذلك الشاعر الفذ!! وقلت له هل كان ما استمعنا إليه شعراً أم قصة أم نشرة جوية أم ماذا؟؟ فضحك بصوت عال، وقال لي وهذا الذي قلت شـعر أيضاً، ومن أجمل ما ســمعت!!. أخذتني الحيرة والحنق في ذات الوقت وقلت له ماذا تعني؟ فقال: يا رجل!! يا رجل!! لقد والله رأيتك تكاد تستلقي على ظهرك ضحكاً عندما كان صاحبنا يلقي قصيدته. ألم تتفاعل مع ما كان يقول؟ أما رأيتك ترتعش كذبيحة تذكَى ويكاد يغمى عليك؟ ان ذلك لأكثر الدلالات على تفاعلك، وعلى أن ما اسـتمعت اليه كان شـعراً لأنه قادك الى أن تتفاعل معه، فالشعر الحقيقي هو ما يجعلك تتفاعل معه ســلباً أو إيجاباً!!!!.
عرفت حين ذلك كم كنت مغرداً خارج السـرب وكم كان لمحللي ونقاد الشعر الجدد وقنواتهم الفضائية من تأثير، وقدرة على قلب المفاهيم.