يوافق يوم 9 من ديسمبر اليوم العالمي «لمكافحة الفساد»، والحقيقة أنه لا توجد دولة أو حضارة مرت على تاريخ البشرية إلا يوجد فيها فساد بأنواعه، ولكن المهم هو تقليل حجمه والسيطرة عليه مقارنة بباقي دول العالم.
ولو تأملنا العصر الذهبي للبشرية إبان العهد النبوي في المدينة المنورة حيث قمة النزاهة والإصلاح مقارنة بتاريخ البشرية، لم يخل الجو العام من منغصات معدودة ومحدودة، فحين جاء أحد جامعي الصدقات فقال: هذا مالكم وهذا هدية!، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا»؟!.
وبحسب هيئة الأمم، فإن قيمة الرشاوى تصل إلى تريليون دولار، فيما تصل قيمة المبالغ المسروقة بطريق الفساد إلى ما يزيد على تريليونين ونصف التريليون دولار حول العالم. وفي البلدان النامية - بحسب ما يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - تقدر قيمة الفاقد بسبب الفساد بـ10% من إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية المقدمة.
انتشار ظاهرة الفساد في أي بلد هو من المعوقات الواضحة للارتقاء في سلم الدول الصناعية أو البداية في صناعة حضارة، فالحديث ليس شخصيا أو فرديا هو حديث صناعة وبناء حضارة من أجل مقارعة ومنافسة الدول الكبرى. فالطريق طويل وشاق يحتاج إلى تصور كبير من عقول مفكرة لديها نظرة مستقبلية تمتد إلى أجيال وليس سنوات فقط، ولا يمكن لأمة أيا كانت أن تنافس الدول المتقدمة الحالية إذا لم تكن معدلات الفساد منخفضة مقارنة بالدول الصناعية الكبرى، ولذلك تحدثت عنه هيئة الأمم وخصصت له يوما لتذكير العالم جميعا به.
والفساد يتعدى في مفهومه المال العام أو الخاص أو الاقتصاد بجوانبه، فذلك فقط وجه من وجوه وصورة من صوره القاتمة، فهو قد يشمل حتى الإداري والمهني والأخلاقي وغيرها من أشكاله المتعددة.
وهو أيضا له تأثير نفسي على بقية طبقات المجتمع، حيث ينتشر التشاؤم بين أفراده، وتصبح المعنويات على مستوى العمل في القطاع العام أو الخاص هشة وضعيفة، وسوف يجد البعض من ضعاف النفوس المسوغ والعذر المقبول للفساد الصغير مقارنا نفسه بغيره.
ولكن أعتقد أن من أعظم مشاكل الفساد هو انصهار الطبقة الوسطى وتحطيمها معنويا وماديا، وهذه مشكلة عويصة وخطيرة على مستوى الدول حيث تكبر الفجوة بين طبقة الأغنياء والفقراء. وعند انهيار أو تضعضع الطبقة الوسطى تتباعد المسافة بين طبقات المجتمع ليصبح الأغنياء قلة، وتزداد الشريحة الفقيرة عددا وعوزا وهنا تظهر الطبقية المقيتة. ومن هنا تبدأ سلسلة من الأمراض الاجتماعية مثل: الجريمة والفقر والبطالة وغيرها، وتلك ناخرة في جسد المجتمع مهما كان قويا ومتماسكا. وهذه المشكلة بالذات هي التي أرقت الكثير من المنظرين والمفكرين في عصر النهضة الأوروبية والتنوير.
ولله الحمد أن قيادتنا الرشيدة التفت إلى هذا القضية الشائكة بحزم، لأن المسألة ليست فقط استقرارا اقتصاديا، بل له أبعاد اجتماعية قاسية على طبقات المجتمع، وهي أيضا مؤثرة سياسيا.
والعقل يقول إن هذه البلاد حباها الله بخير كثير -ولله الحمد- وهناك متسع للجميع أن يصبح غنيا وثريا أو من الطبقة الوسطى بالعمل الجاد والمنظم، وهو أيضا يكفي الجميع بدون الحاجة إلى التطلع إلى الطرق الملتوية أو المشبوهة، ولكن للأسف النفوس البشرية ليست سواء.
والحقيقة، أننا لن نصل إلى مستويات الدول المتقدمة إلا إذا كانت معدلات الفساد متدنية ومنافسة لهم من ناحية الشفافية، ومقاربة للمعدلات العالمية المعتمدة، وإلا سوف نظل نطرد خلفهم جيلا بعد جيل.