قوام الأمم «الأخلاق» وسرُّ قوتها «العدل» ومصدر سعادتها «الإيمان» فإذا عدم العدل ضعفت، وإذا زال الإيمان شقيت، وإذا ساءت الأخلاق «زالت». تخيل أمة بخيلة، جبانة، غير عفيفة، أنانية، هل ستبقى وتقوى فضلا عن السمو والعزة
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
مرت بي هذه الخواطر وأنا أراجع لقاء مرئيا لي قبل سنوات مع د. عبدالرحمن السميط رحمه الله وفي النية إخراجه كاملا بإذن الله، وكان يقص حادثة تعطل سيارتهم «القديمة» في إحدى غابات أفريقيا فحاولوا إصلاحها فلم يستطيعوا، ثم مرت بهم مجموعة من الأفارقة النصارى ومعهم قسيسهم «الإيطالي» يركبون سيارتهم «الجيب» الجديدة، فطلبوا مساعدتهم فرفض القس الإيطالي بعد رؤيته للدكتور. عبدالرحمن، وقال ساخرا: اطلبوا من نبيكم محمد يساعدكم ثم رحلوا، يقول الدكتور: وأصابنا كربٌ شديد فنحن وسط غابة وفي مكان بعيد عن القرى، والنهار قد انتصف فدعونا الله بصدق وابتهلنا إليه وحاولنا إصلاحها للمرة الأخيرة وبعد ساعة اشتغلت السيارة فحمدنا الله وشكرناه ثم سرنا، وبعد عدة كيلومترات وجدنا القسيس ورفقاءه متعطلين فأوقفنا سيارتنا قريبا منهم، ثم ساعدناهم ورأيت القسيس مختفيا خلف السيارة خجلا من موقفهم السابق، فلما صلحت السيارة قلنا لهم: امشوا أمامنا نخشى أن تتعطل السيارة مرة أخرى فتعجبوا من صنيعنا! فقلت لهم: ما فعلناه هو ما يأمرنا به ديننا الإسلامي من إغاثة الملهوف، وتنفيس المكروب، وقضاء الحاجة، فتأثروا جدا، ثم سرنا، وبعد عدة أيام سمعنا أن الأفارقة أولئك أسلموا، وذلك القس تغيرت صورة المسلم في نظره وأصبحت نظرته إيجابية لنا. أرأيتم معشر القراء كيف أثر حسن الخلق بالأعداء والمنافسين وجلبهم للإسلام! فلم يكثر عليهم الحديث والنقاش مع أهميته، لكن رأوا سلوكا مؤثرا، وخلقا أخاذا جذب قلوبهم وأسَرَ عقولهم، وهذا ما فعله صلاح الدين الأيوبي رحمه الله حين فتح القدس عام ٥٨٣هـ وهزم الصليبيين وكانوا متوقعين أنه سيقتلهم ويبيدهم وعوائلهم ويخرب بيوتهم وكنائسهم كما فعل أجدادهم قبل ٩٠ عاما، عام ٤٩٢هـ إذ قتلوا معظم أهل المقدس واستحلوا ديارهم ودمروا مساجدهم؛ لكن القائد صلاح الدين أمّنهم وعفا عنهم فمن جلس فهو تحت العدالة، ومن خرج يحمل ما يشاء خلال ٤٠ يوما ويقدم فدية، ومن كان منهم فقيرا ساعده أغنياء المسلمين، ومازال الغرب وعقلاؤه يشهدون بذلك، وهذا الخلق النبيل هو ما فعله القدوة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه منذ صغره حتى مماته في سلمه وحربه، ورضاه وغضبه حتى سُمي الصادق الأمين، وشهد له الله جل جلاله في عليائه «وإنك لعلى خلق عظيم» في الجود والشجاعة والحلم والعفو والاحسان، يجسده تعامله مع أصحابه وأعدائه، وإحسانه لأهله وأصحابه وجيرانه حتى اليهودي، ذلكم من أسرار العظمة والتأثير.. ولذا جعل الاسلام البر حسن الخلق، وهو أثقل شيء في الميزان، فالفرد بأخلاقه يؤثر أضعاف ما كتبت أقلامه، والأمم تبقى بقدر عمق أخلاقها الحسنة.. وتضعف وتندثر بقدر ما ينخر بها الشح والخوف والأنانية والانتقام.. فلا يبقى عز وقوة وتأثير مع سوء خلق كما لا يبقى شجر مع فساد هواء وسوء ماء وصدق الشاعر إذ يقول:
فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا..!