ابتسمت حين رأيت ذلك الدكتور في أحد البرامج التلفازية بصفته الجديدة (خبير الشؤون الأسرية) يتحدث عن موضوعات وأحوال أسرية.. هذا الدكتور بعد أن شغل مجتمع الأسهم بتحليلاته زمن هوس الأسهم والاستثمار والمضاربة، كان المتصدي غالبا للمشاركة في برامج مؤشرات الأسهم وحضور اللقاءات المتعددة في القنوات المختلفة..
وكان المحلل (الفلتة) الذي ينتظر الناس تحليلاته، وتوصياته، وأطروحاته محبوب الكثيرين. وقلما كانت تصيب أقواله الحقيقة، وتطول توصياته المكاسب فكان ممن أغرقوا الناس في الأسهم، فما كان يحدث بعد تفاؤلهم بالارتفاع إلا هبوط حاد، وما كان يحصل بعد تطميناتهم إلا انهيار للسوق فنقول بعدها يا ليتهم سكتوا..
نعود لصاحبنا الخبير الأسري بعد صولاته وجولاته في تحليل الأسهم وبعد سقوط السوق وانهيار الناس توارى عن الظهور, وترك الأحاديث، والتحليلات، والتصريحات، واحتجب هو وأمثاله عن الناس ولكنه عاد بعد فترة في مجال آخر ومنهج مختلف فكان الخبير الأسري الذي لم يعرف عن الأسهم شيئا.. فتحول من صاخب في تحليل الأسهم إلى هادئ في شؤون الأسرة.
ليست القضية هذا الدكتور أو غيره أو ذاك المحلل الذي تحول إلى فن آخر بل القضية هي وسائل الإعلام تأتي دوما بمن يصدح، ويصخب و(يوهق) فيما يمسّ الناس في أموالهم، وأنفسهم، وحاجاتهم سواء الاجتماعية، أو النفسية، أو الاقتصادية، أو العاطفية.. ويقتات من بيع الأقاويل أياً كانت ثم ينسل كما الشعرة من العجينة اللينة بل واللينة جداً.. أو تأتي بمن يلبس ثوب المتحدث في مجال ما.. سواء كان جديرا أو غير جدير فالمعيار مفتوح.. فالقنوات تمتلئ بمحللي الأسهم ومعظمهم يفتقد العلم، والمعرفة، والخبرة، والفهم (فقدرته على صف بعض الكلمات في الأسهم تجعل منه محللا)..
ومحللو الرياضة وخصوصا كرة القدم كثير منهم لم يركل كرة في حياته وتجربته العملية على (الزيرو) وإن كان لاعبا معروفا.. أو دخيلا على الوسط الرياضي له بعض الأخبار.. نجده يتصدر المشهد النقدي الرياضي.. ونرى أسلوبه في العرض، والتحليل معدوما، ومع ذلك يتحدث، ويحلل..
ونجد ذلك المقدم الهش بلا ثقافة، أو حصيلة، أو تخصص منطقي ومقبول يتنقل موضوعيا فهو تارة يقدّم برنامجا عن الفن، وبعد حين برنامجا صحيا، أو برنامجا اجتماعيا جادا، أو ثقافيا، أو حتى سياسيا.. يعني مذيع وقت الحاجة.. ويؤتى له بمن يستطيع الاستثارة، والانتقاد الحاد، والصوت العالي، أو يجيد الخلاف ليكون ضيفا صاخبا فيحاول ذلك المقدم أن ينجح برنامجه عبر التصادم، والإثارة، والاختلاف..
وهذا الشيخ أو ذلك الداعية الكريم الذي يقدم برنامجا طيبا فيخلط كلماته، وخطابه الوعظي الكريم بكثير من الفتاوى العامة بلا تروي، أو التوجيهات الإرشادية وهو غير مفت ـ حتى وإن كان جديرا علما ـ بدون أن يحس أن برنامجه ليس للفتوى بقدر ما هو للتوجيه، والدعوة، والتفكر في أمور الدين الجميلة فيتحول بذلك الداعية إلى مفتٍ كبير وتتداخل عنده أطروحاته بين النصح والأحكام وهو لا يشعر أن هناك متلقين ذوي أمزجة، وعقليات متفاوتة قد يلتقطون بعض فتاواه ويأخذون بها، ويتناقلونها..
ختام القول: ما يطرحه الإعلام المرئي والمسموع وحتى بعض المقروء إعلاما ليس نقيا بل تشوبه شوائب عدة تخضع لتيارات مختلفة, وتوجهات فكرية متعددة، ويخدم مجالات متنوعة.. لذلك لن ننتهي من الجدال، والخصام الفكري، أو النفسي مع الآخر بسبب كثير مما يبثّ فيها عبر برامج ملونة، أو مقالات معاكسة، ولن نصل إلى الحقيقة الكاملة ما دامت رحى اللغط، والثرثرة، والجدالات تدور على أفواه مختلفة، وقد تضيع العقول بين كل الأصوات الصاخبة.. فلا بد من الضبط الإعلامي المتخصص والقوي للقنوات والوسائل وحتى الأشخاص بالقدر الذي يتيح لنا الاستمتاع بعقولنا، ونرتاح في بيوتنا.