التعليب هي حالة يعيشها البعض المهزوم داخله، والمأزوم في مكنونه، حيث تجد انفعالاته، انطباعاته، ردات فعله، ردوده، رؤيته، وجهة نظره، عواطفه، كل ذلك تجده معلّبا وجاهز التحضير، وسريع الذوبان داخل نفسه المهزوزة المهزومة.
لا يستطيع البعض ان يكون له رأي يخصه، أو طرح يليق به، أو وجهة نظر تمثله، بل تراه متوجسا ينتظر أحدهم ليقول قولا فـ «يبغبغ» مثله، وينتظر أحدا ليفكر عنه ويعطيه خلاصة رأيه ليردده في مساحات مختلفة بطريقة مختلة، تسأله عن تفاصيل ما يقول، فلا يرد لأن كبيره الذي علمه الكلام سكت عنه، وتركه يواجه «ببغائيته» وحده أمام الخصوم.
في حاضرنا المزحوم بالأحداث، والقصص، والمشاهد، والأطروحات، والمفاجآت، يتحدث الكثير بلا وعي، وبجهل تام، ومن دون تفكير، وبقناعات غير مقبولة، ورؤى مرفوضة، لا أصل لها من ناحية دينية ولا حتى علمية، ومشكلته أن خفة عقولهم صرفتهم عن تتبع الحق، والحقيقة جعلت منهم أتباعا لتوجه فكري، أو اجتماعي، أو ثقافي فلا يكاد ينجو باستقلاليته من أولئك الذين أقحموه في معتركهم.
الكثير ليس مستعدا ليكون شخصا مستقلا، وذا عقل مستقل، وقلب مستقبل يعيش حالة «التعليب الفكري» والتعبئة الذهنية من أطروحات الغير والسبب هو أن عقله تنازلي لغيره، أو أنه يكون فارغا ولكن نفسه تأبى ألا يكون أقل من غيره فيسير بما يسير غيره ليقال عنه إن له وجهة نظر، وذو لب وفهم ورأي،
حين يبرز حدث ما، أو خبر، أو موقف تأملوا جيدا لذلك المعلب يهب ويدب في ذهنه إلا أن يكون له وجهة نظر أو رأي، يصبر ويصبر ساعات ويتابع ما يقوله فلان ثم يعود يشكّل في رأسه رأي كبيره ليقول عنه، وهنا معالم الهزيمة النفسية التي وضعته في غيابات «تضخيم الأنا».
وبعضهم ليس له من الذهن والفكر الراشد شيء لكنه يرى في داخله أن يميل لاتجاه معين، أو ينصرف لمجموعة ما، ووسائل التواصل الاجتماعي مليئة جدا بأطروحات مثل هؤلاء، فمثلا لا يكاد ينشأ في تويتر هاشتاق، أو يغرد أحدهم بأمر ما يحرك ويثير الناس إلا وتجد تزاحم أولئك ليدخلوا في طوابير التغريد، والإضافات، والتداخلات، والاختلافات، ويجتر بعضهم بعض الآراء الغريبة المائلة، أو يكرر بكل تعليب ما ردده ذلك الفلان، فتغص مساحات النقاش بالافتراءات واللغط والجدال «الفاضي»، أو يرمي بعضهم بعض فكره القاصر ولا يعود،
المشكلة تبدأ لأن لدينا أناسا يكابرون ويضخمون «الأنا» ويصرّون على أنهم من يفهمون جيدا، فتحدثه بدين، ومنطق، وعقل، ومصلحة، هل راجعت ذلك، هل تأكدت، هل تبيّنت، هل فهمت، هل استوعبت، هل تثبت، هل سألت، هل قرأت، هل وهل وهل؟، لكنك لا تشاهده إلا معلّبا مغلفا بنفسه وبمن ردد له، لماذا لأن ميله وتوجهه يقوده ليقول رأيا وتفاعلا وردة فعل نمطية تسوقه لكل موقف قادم.
إن صهر الوعي بالتعليب الفكري مشكلة يعاني منها كثير من الناس، فهو لا يريد أن ينتج، أو يظهر فكر إلا من خلال فكره القاصر، أو عبر فكر لآخر، ولا يتكلم مع الناس إلا حسب رأيه الأحادي، أو رأي آخر من عقل يفكر عنه، لذا وصل مجتمعنا لحالة الانتصار للذات على حساب الحق واليقين بإثارة الباطل والشك، لمجرد «أنا» هنا.
ختام القول: من الصدق والرشد أن ندرك أنه ليس هناك من يكفينا عناء التفكير عنا، أو نكتفي بعقله عن عقولنا جميعاً، وإلا سنجد أنفسنا في عمق التناقضات، وضياع الشخصية، وفقدان الهوية الذاتية، ففكروا وابحثوا عن الحق دوما.