DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

النسقُ قراءةٌ أخرى

النسقُ قراءةٌ أخرى

النسقُ قراءةٌ أخرى
أخبار متعلقة
 
يمكن الاطمئنان إلى القول بأنّ المصطلحات في مجال العلوم الإنسانية تختلف عن المصطلحات العلمية الرصينة التي تعتمد على فروض وخطوات ونتائج وأحكام دقيقة، حيث إنها فضفاضة مطَّاطة؛ تتحرَّك بالعَرْض لتستوعب أبناء الثقافة التي أفرزتها أو أبناء الثقافة الواحدة، وتتحرَّك بالطول لتستوعب أبناء الثقافات المختلفة. لذا، فإنَّه لا يمكن الجزم بأنّ ثمَّةَ مجموعة من المفكرين والنُّقَّاد اتفقوا على دلالات واحدة للمصطلحات، وهذا يدلّ على أنّ المصطلحات قد جاءت للوجود ومعها نسبيتُها. أي أنّ الدخول في تعريفات المصطلح، بمثابة الوقوع في الرمال المتحركة -كما يرى عبدالله الغذامي-.ولابد من الاعتراف بأنّ المعاجم العربية لم تدفع بتعريف مصطلح «النسق» إلى حدّ الاصطلاح، ولكنّ المعاجم الغربية اهتمت به كمصطلح، وقدَّمت له تعريفات عديدة تكاد لكثرتها تتناقض. ويتصل المصطلح -اختصارًا- بما جاء من الكلام على نظام واحد. ومن أهم خصائص النسق؛ أنه يتحدَّد عبر وظيفته وليس عبر وجوده المجرّد، وهو ذو طبيعة سردية، وقادرٌ على التخفِّي دائمًا وارتداء الأقنعة الكثيرة، وهو أزليّ تاريخيّ راسخٌ فينا، وله الغلبة دائمًا.كما أن النسق -في ظل النقد الثقافي- لن يتمّ التعامل مع النص الأدبيّ على أنَّه ليس فحسب نصًّا أدبيًّا وجماليًّا ولكنَّه أيضًا حادثة ثقافية، بل سيتمّ التعامل معه باعتباره حامل نسق أو أنساق مضمرة يصعُب رؤيتها بواسطة القراءة السطحية. أي أنّ النظرية النقدية لم تنتبه إلى الأنساق المختبئة في النصوص وهي أنساق تتحرك في كثير من الأحوال على نقيض مدلول النصوص ذاتها وعلى نقيض وعي المبدع والقارئ، وهذا فعلٌ نسقيّ وليس فعلا نصوصيًّا، وليست النصوص إلا حوامل تحمل هذه الأنساق وتمرِّرُها بدون أنْ يتمّ الكشف عنها. إنّ قراءة الأنساق الثقافية الظاهرة والمضمرة، هي نوع من التأويل، وإصغاءٌ لما يُقال وما لم يُقل على السواء. والتأويل -كما يرى مصطفى ناصف- لا يتركَّز فحسب على ما يُصرِّح به النصّ. من الضروري أنْ نذهب إلى ما وراء النص بحثًا عن جانب محذوف لم يقُله أو لم يستطع الإفصاح عنه. هذه القراءة النسقية تمثّل فيها ركيزة التراكم فارقًا جوهريًّا، لأنها تُكسبها نوعًا من الشمول الرأسيّ والأفقيّ، كما أنها تستحضر الطبقات الرسوبية لكلّ نسق على حده، وتقوم بالربط بين الأنساق كلّها. وذلك إعمالاً للوعي الثقافيّ الصحيح الذي يربط اللاحق بالسابق. وأيضًا إعمالاً للذاكرة النشطة التي توظّف مخزونها لنقل النسق من أُفُقه القديم إلى واقعه الجديد. ومن الأنساق الشهيرة -التي أشار إليها الدكتور محمد عبدالمطلب-، نسق الغراب الذي بدأ بالغراب المعلِّم في قصة الأخوَيْن «قابيل وهابيل»، ليرتبط بعدها بالشؤم الذي كانت العرب تمارسه ضده، ثم بالبَيْن والفراق والعداوة، وأخيرا باللون الأسود. ثم نسق الظلم الذي كان ركيزة جاهلية مقبولة، ومبعثا للفخار والخيلاء، وإعلاء لشأن الظالم، ثم جاء التحوُّل الحضاري بعد الإسلام لينتقل النسق من القبول إلى الرفض وتكون نُصْرة الظالم في منعه من الظلم كالحديث الشريف: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». وأيضا نسق العصا -الذي أشار إليه الدكتور عبدالله الغذامي- حين بدأ بعصا سيدنا موسى «عليه وعلي نبيِّنا الصلاة السلام»؛ من أداة للتوكّؤ وهشّ الغنم، إلى أداة للسحر والمعجزات، ثم تحوّلها إلى آلة للبلاغة، كما وقع مع عبدالملك بن مروان الذي قال: لو ألقيتُ الخيزرانة من يدي لذهب شطرُ كلامي. وسحبان بن وائل الذي توقّف عن الاسترسال -بين يديّ معاوية بن أبي سُفيان- لأنّه وقف يخطب دون عصاه. ويمكن التعامل بنفس الكيفية مع عديد الأنساق كالموت؛ الذي بدأ بالفناء الفعليّ للإنسان والحيوان والنبات، وارتبط بالنوم باعتباره موتا خفيفا، ثم انتقل بعدها إلى موت الإحساس والتَّماوُت والتبلُّد، وأخيرا ارتبط بالموت المعنوي وهو موت القيم سواء باختفاء القيم الإيجابية أو بانتشار القيم السلبية. كذلك، امتلك نسق الحضور نفس الروح المراوغة؛ حين بدأ بحضور النسق بنفسه، ثم ارتبط بالحضور بالنيابة عنه أو بغيره أو في مكان غيره، ثم انتقل للحضور حضورًا سلبيًّا أو الحضور في غير مكانه، وأخيرا الحضور بفعل التذكّر.إذن، عند قراءة النسق ثقافيا، لابد من التسلّح بالوعي الثقافي والذاكرة النشطة؛ لفتح نوافذ النصوص على الموروث الثقافي؛ قديمه وجديده.