DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

دوافع الإنتاج.. مسألة فيها قولان

دوافع الإنتاج.. مسألة فيها قولان

دوافع الإنتاج.. مسألة فيها قولان
دوافع الإنتاج.. مسألة فيها قولان
أخبار متعلقة
 
أشرت في مقال سابق تحت عنوان (بين ميكنة الأداء وأنسنة الآلة) إلى أن أداء الميكنة ليس واحدا في كل البيئات، فقدرة التكنولوجيا على تطوير الأداء تتوقف على الارتقاء بالعقلية التي تتعامل مع الآلة، إذ غالبا ما يترك الإنسان أثرا إيجابيا أو سلبيا على أداء الآلة تبعا للثقافة السائدة، أي تبعا للعادات والتقاليد والأعراف وبقية العناصر الثقافية الأخرى، كما يسود الاعتقاد بين منظري الإدارة بوجود تفاوت في احترام روح العمل، وعقد العمل، وشروط العمل وطبيعته بين بيئة ثقافية وأخرى، ويعزز مثل هذا الزعم استحسان جماعة عرقية ما لبعض الأعمال أو الحرف واستهجان بعضها الآخر، غير أنه من المجازفة الاعتقاد بأن هنالك معيارا ثابتا ودقيقا يمكن الاطمئنان إليه أو تعميمه في هذا السياق. لفت انتباهي في مذكرات الأميرة العمانية سالمة بنت سعيد التي عاشت في القرن التاسع عشر، وفي بيئتين ثقافيتين مختلفتين هما: زنجبار وألمانيا, المقارنة التي عقدتها بين دوافع العمل في أوروبا ودوافعه في أفريقيا، وقد حاولت نفي صفة الكسل عن العربي أو الأفريقي الذي كثيرا ما يصور في كتب الغرب على أنه إنسان خامل، واستبدلت المؤلفة صفة الكسل بالقناعة، وهي نتاج عوامل بيئية وثقافية مشتركة، ورأت أن الاجتهاد والنشاط الذي يبذله المواطن في الغرب هما ضرورة لا غنى عنها إذا أريد الحفاظ على أرواح مئات الآلاف من الناس.. ولاحظت الأميرة العمانية أن الإيطالي والأسباني والبرتغالي أقل عملا من الألماني والإنجليزي - وهم جميعا من قارة واحدة - وذلك لظروف بيئية أو مناخية تقلل من نسبة الاحتياجات لدى سكان جنوب القارة الأوروبية، ولتعزيز وجهة نظرها تلك تعقد مقارنة ظريفة بين احتياجات طفلين من اللباس يعيش أحدهما في جو بارد بأحد بلدان أوروبا، ويعيش الآخر في أحد بلدان أفريقيا الاستوائية، فالطفل الأول يحتاج إلى حذاء وجورب ورداء ومعطفين وقفاز ومعطف قصير وشال وجورب للساقين وغطاء للرسغين وآخر مماثل من الفراء، (يبدو أن لامة مقاتل من مشاة المارينز يخوض حربا كيماوية أقل تعقيدا من تلك التشكيلة الثقيلة من الملابس)، وفي مقابل ذلك تتكون ملابس الطفل في منطقة افريقية استوائية حارة من قطعتين فقط قميص وكوفية، وتنهي سالمة هذه المقارنة متسائلة:(أفيكون على أم عربية لا تحتاج إلا إلى القليل لها ولطفلها أن تعمل بنفس القدر مثل ربة بيت ألمانية؟) معنى ذلك أن الدافع إلى العمل قد تفرضه الاحتياجات، وأن الاحتياجات وليدة الظروف البيئية، وعليه فإن المثل القائل إن (الحاجة أم الاختراع) لم يأت من فراغ، ومع وجاهة هذا الاستنتاج المتعلق بالاحتياجات إلا أن للجو الحار في المناطق الاستوائية أثره السلبي على حيوية ونشاط سكان تلك المناطق. لكن فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب (نهاية التاريخ)، وهو موضوع اختلاف على أية حال، يلاحظ أن هنالك اختلافات في أخلاقيات العمل، وفي الموقف منه حتى ضمن الحيز الجغرافي الواحد، وأن الأمر لا يتعلق - فقط- باحتياجات الفرد الناجمة عن الظروف البيئية، ويتخذ بعض البلدان التي تشكل (كوكتيلا) من الثقافات المختلفة ضمن حيز جغرافي واحد كالولايات المتحدة مثالا على ذلك، حيث تكاد تتشابه احتياجات الأفراد ويتباين، مع ذلك، مستوى الأداء ومعدل الإنتاجية، والمستوى المعيشي والتعليمي من جماعة عرقية إلى أخرى. الآن وبالرغم من أن الظروف البيئية لم تتغير في الشرق أو الغرب، فإن العولمة قد فرضت مناخات استهلاكية جديدة، فازدادت بذلك احتياجات الإنسان هنا وهناك، وازداد تبعا لذلك الجهد المطلوب لتأمين تلك الاحتياجات التي أصبحت في حكم الضروريات، ولعل مثل هذه الملاحظة نقطة تسجل لصالح وجهة نظر سالمة بنت سعيد المؤسسة على فرضية الاحتياجات. لكن ملاحظة أخرى يوردها فوكوياما تجعل المرء أكثر حذرا في الوصول إلى نتيجة قاطعة مانعة في هذه المسألة، وهي ملاحظة لا تتكىء على المفهوم النفعي البحت المتعلق بالاحتياجات، ويضرب مثلا على ذلك بالثقافة اليابانية التي تستهدف الجماعات أكثر مما تستهدف الأفراد، حيث يعمل الياباني لتأكيد الهوية الجماعية، فالياباني - كما يرى فوكوياما - يعمل من أجل نيل اعتراف الجماعة به، واعتراف الجماعات الأخرى بجماعته، وهو اعتراف لا يؤكل خبزا لكنه يرضي غرورا قوميا ما، ولذلك (لا يتصل سبب إقبال هؤلاء على العمل إلا جزئيا بالعوض المالي). مع ذلك فإنه لا يمكن الحديث عن تلك الهوية الجماعية بثقة مطلقة، إذا ما أخذنا في الاعتبار تباين الاستعدادات الفردية، إذ يمكن ملاحظة تلك الفروق بين الأفراد ضمن الحيز الجغرافي الواحد والثقافة الواحدة، بل ضمن الأسرة الواحدة، وهذا ما يجعل الاستجابة عند (س) أو (ص) من الناس تجاه العمل ليست واحدة، فهنالك من يتمدد على الوقت متثائبا تمدد اللدائن تحت شمس آب، ومن ينتهز أية فرصة متاحة للتملص من شروط العمل، ومن يحتاج إلى مجموعة من الضوابط لكي يواظب على عمله أو ينجزه على أكمل وجه، ويوجد في مقابل هذا من يتفانى في عمله دون رقيب أو حسيب. ومهما اختلفت الآراء أو تباينت حول قابلية العمل لدى هذه الجماعة أو تلك، سيبقى العمل جوهر الإنسان، وأن المرء ليس سوى مشروعه الخاص، أي إنه لا يوجد إلا بمقدار ما يحقق من ذلك المشروع، أي إن وجوده عبارة عن مجموعة أعماله التي أنجزها، ويذهب أحد المفكرين إلى تأكيد هذه الفكرة متأملا أسطورة سيزيف، فيرى أن اللحظة المظلمة الوحيدة في رحلة سيزيف المضنية هي لحظة سقوط الصخرة التي يحملها إلى أعلى الجبل، وهي لحظة اليأس والإحباط من تبدد الجهد المبذول، لكن الأمل سرعان ما يعود إلى سيزيف بمجرد أن يعاود تكرار المحاولة مرة ثانية، إن لحظة بدء العمل تلك هي التي تجعل للحياة قيمة ومعنى.