DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

أعظم انتصار أن لا تستعيد ذكرى من آذوك

أعظم انتصار أن لا تستعيد ذكرى من آذوك
أعظم انتصار أن لا تستعيد ذكرى من آذوك
نجيب الزامل
أعظم انتصار أن لا تستعيد ذكرى من آذوك
نجيب الزامل
في العام ١٩٦٢ تزوج شاب اسمه جوزف فتاةً اسمها مارينا. عاشا زمنًا سعيدًا مع بعضهما بروسيا أيام الاتحاد السوفيتي. وكان الزوجان الشابان فنانين صاعدين، جوزف شاعر ومارينا فنانة تشكيلية. ورزقا بطفل جميل.
في يوم أغبر بعد عشر سنوات من حياتهما الوادعة، اقتحمت شقة الحبيبين الشرطة السوفييتية وأخذوا جوزف خطيفة معهم ووضعوه على الفور في طائرة متجهة للنمسا منفيًا، مع مذكرة سوفييتية تحرم عليه العودة للاتحاد السوفييتي.
ولم يرَ مارينا أبدًا..
أما جوزف فهو الشاعر الروسي الشهير جوزف برودسكي والذي حصل على جائزة نوبل في العام ١٩٨٧. صحيح أن نظام الاستخبارات السوفييتي ارتكب خطأ شنيعًا حيث عاقب برودسكي على نظمه قصيد اعتبرت ضد القيم السوفيتية الشيوعية، إلا أنها كانت قصيدة لم يسمع بها أحد لشاعر مغمور لم يسمع به أحد خارج تجمعه الأدبي الصغير.. ثم بنفيه للنمسا احتفل به الغرب (مع أن كل قصائده كتبت أيام كان بروسيا) وصار اسمًا عالميًا حتى ترشح للتدريس وإلقاء محاضرات في أرقى جامعات الولايات المتحدة.
وفي كتابه «بين الحزن والمنطق»، وهو كتاب جُمع له من محاضراته في الأغلب، كلمة ألقاها على الطلبة في جامعة ميتشجان لفتت انتباهي فعلًا.. بل أعجبتني وأثرت بي، وقرأتها مرارًا وتكرارًا. فهو يقول:
«حاذر أن تعطي من وقتك أو فكرك أي مساحة لمن حاول أن يجعل من حياتك قطعة عذاب بعد أن تتخلص منه وتنجو من أذاه. لأن إعطاء أي وقت ومساحة من تفكيرك استعادة لذكرى من آذاك يعطل استمرارك في الحياة. وبقاء ذكرى من عذبوك وأذاقوك سُمًا زعافًا كصدى يتردد داخل نفسك هو بالضبط ما يريده هؤلاء القساة، وبالتالي يكسرونك، ينتصرون عليك حتى وأنت بعيد عنهم. ان إعطاء أي ذكرى لمن قهروك لضعف حياتك حتى بالحديث عنهم أمام الناس ومهما رغب الناس بذلك إنما هو مواصلة لاستحضارهم وهذا سيشعل خفقانا سيئا في قلبك، وشتاتا في صفاء وتركيز ذهنك.. ومعنى هذا حصة من الانتصار ينتزعها قاهروك من بين ضلوعك».
وبالفعل وجدت أن كلامه فوق أنه قدرة فريدة على إدارة دفة النفس، وحكمة مُزِجت مع أعمق نوع من الشجاعة، فهي أيضا محاولة عبقرية لانتشال النفس من مستنقع الوحل المتحرك الذي يغرق فيه كثير من مسترجعي ذكرى القهر والآلام.. أحيانا حتى الموت.
إن الانفعال الشديد الموازي للفعل الشديد الذي يقع علينا قد يهزمنا ويمرضنا ويمتص دماء اليقظة والوعي والتفكير من عروق وعينا ويسلمنا ضحية وقرابين من أنفسنا إلى نفسنا. هذا وقد يبقى الفاعلُ كما هو لم يُصَب ولم يُمس.
إن عدم استعادة ذكرى من آذوك والمضي في حياتك فإنك تترك للزمن أن يقوم بدورٍ قدّره الله له بعلم الغيب. فانظر لمثال برودسكي بقي مستمرًا بحياته ونجح نجاحًا عريضًا واستلم أرفع جوائز العالم مكانة واحترامًا.. بينما مات وسقط الاتحاد السوفيتي.