العيش في مدن كهذه يترك في النفس أثرا، ولكن ماذا بعد مغادرتها والعودة لها بعد فترة؟ هل ترجع لها وكأنك لم تغادر؟ هل تستشعر ألفة المكان وتستمر كأن الانقطاع لم يكن، أم أنك تكون غريبا في بيئة مألوفة، كزائر غير مرحب به؟
في الماضي استحوذ البكاء على الأطلال جزءا من الأدب ولكنه لم يحرك بي ساكنا. تلته قصص المهجر والحنين إلى الأوطان ولكنني لم أكن أتفهم ثقل المشاعر التي تحملها. لعلي الآن بدأت أستشعر رغبة استرجاع بعض ما مضى لعيش ذكريات المكان وإعادة الشريط.
في زيارة قصيرة لمدينتي كامبريدج وبوسطن، في الولايات المتحدة الأمريكية، وهما متقابلتان حول نهر التشارلز، حاولت استرجاع ذكريات أجمل وأسوأ سنة مرت علي وعشتها هناك. زرت الأماكن بالتوالي لأُعيد شريط ذكريات معقد ومركب وأنا فيه.
كانت زيارتي للأماكن نوعا من السلام عليها وفِي ذات الوقت تأكد من أن المكان ما زال كما عهدته وإن كان المكان يسترجع مشاعر الذكريات. وإن كانت الأماكن بحد ذاتها جميلة إلا أن التجربة اختلفت عن المتوقع.
تعلمت من تلك التجربة المحددة أن موطن الذكريات الأمثل هو الذاكرة، وأن محاولة عكس الماضي على الحاضر فيها نوع من الزيف وفي نفس الوقت تخريب للذكرى جراء تداخل الحاضر.
لا أذكر قصتي من أجل السرد فقط، بل لأن لكل منا مكانا أو أماكن كهذه. أماكن شكلتنا ولا يمكن فصلها عن تاريخنا. نود أحيانا أن نحنطها ولكن ذلك يعتبر قتلا لها. فالأماكن حية ولا تموت بمجرد مغادرتنا لها. رغبتنا في إبقائها كما كانت هي ما يهدد بقتلها.
ميزة الذاكرة أنه كلما أبعدت مدة الذكرى تم تنقيحها وإزالة الشوائب. نكررها حتى نحتفظ فقط بكل ما هو جميل في ذاكرة قد تعتمد على واقع مضى ولكنها أخذت شكلا رومانسيا مبالغا فيه. في هذه الحالة يسهل تمجيدها وتذكرها كماضٍ جميل متناسين ما يكدر صفو تلك الصور من واقع مضى لا بد وأن يحمل شوائب. عندها تصبح الذكريات ليست انعكاسا للماضي بل تتحول إلى شيء من صنعنا. حينها لا تسكن هذه الذكريات سوى في داخلنا.. في الأماكن التي تسكننا.