قبل أقل من ربع قرن بقليل، كنت وزميل سعودي الوحيدين في فصل لدراسة اللغة الإنجليزية في مدينة أدمبرة الاسكتلندية، ومعنا زملاء وزميلات من مختلف ارجاء المعمورة، ومن مختلف الثقافات والديانات، والاعمار. عددنا لا يتجاوز الخمسة عشر دارساً، المهم أن السيدة المدرسة طلبت إلينا جميعا الكتابة عن مناسبة أو احتفالية سنوية تتكرر في بلاد كل منا، والحديث حول تلك المناسبة بتفصيل ينقل الصورة عنها كحدث، وعن مضامينها كمناشط وفعاليات للدارسين معنا في الفصل.
كان أمامنا ثلاثة أيام لاختيار الموضوع، وكتابته، وتقاسم فقرات الحديث عنه بيننا نحن السعوديين في المجموعة. وكانت الخطة بيني وبين زميلي باختصار أن يكتب كل منا ما يستطيع، من أفكار، وآراء، وذكريات، ومشاهدات، ثم ندمج العملين في صورة واحدة بعد حذف المتشابه، ونصير إلى تقسيم العمل في نقاط لتحفظ وتلقى على اسماع الزميلات، والزملاء. واحدة من الاشكاليات التي عانيناها كانت افتقار حياتنا الثقافية والترفيهية والاحتفالية إلى هذا الطراز من الفعاليات التي تكثر بشكل يكاد يكون مبالغا فيه لدى الأمم والشعوب الأخرى.
تم كل شيء في وقته، ولفتنا حينها أن لم نجد الكثير لنقوله عن الجنادرية سوى العبارات التقليدية عن مهرجانات التراث والثقافة، المتكررة، وعلى العموم اجتهدنا، وانجزنا المهمة وجاء يوم التقديم الشفهي وتناوبنا زميلي، وانا بإلقاء ما لدينا عن الجنادرية في دورتها التاسعة، او العاشرة. كل في حدود الوقت المتاح له. وهي خمس دقائق. وبعد ان انتهى كل الدارسين من تقديم عروضهم حول ما يدور في بلدانهم من مناسباب مشابهة. جاءت اللحظة الحاسمة وأعُلنْت نتيجة أفضل تقديم عُرض في ذلك الأسبوع وكان الخاص بالجنادرية!
كان للمُدرسة تقييمها الخاص، ولا اشك أن زميلي وأنا حاولنا تقديم أفضل ما لدينا على مستوى المعلومة، او عرضها باللغة الاجنبية «الإنجليزية»، وعبر حماسنا ربما الذي كان طاغيا ونحن نتحدث عن الجنادرية وهي صورة موازية للتاريخ وللأرض وللناس في بلادنا.
اليوم الجنادرية في دورتها الثانية والثلاثين منجز مختلف ومتطور، حيث ارتقت عبر السنوات الماضية لتتجاوز العمل السعودي الخالص، والخاص إلى المنتج الخليجي، والعربي والإقليمي. وتجاوزت كل تلك النجاحات في سنواتها الأخيرة في أن أصبحت أحد جسور التواصل الإنساني الدولي عبر استضافة دورية لما يعرف «بدولة ضيف الشرف» التي تُقدم سنوياً، وعبر محددات معينة لدى المنظمين لدولة شقيقة أو صديقة من دول المنظومة الدولية تتاح لها الفرصة بشكل مناسب لاستعراض تاريخ العلاقات مع المملكة ودول المنطقة، ويصار في كثير من الحالات إلى تعزيز وتنشيط مناشط التعارف والتقارب الإنساني والثقافي والتجاري والاقتصادي بين الدولة الضيف الشرف وبين المملكة ودول المنطقة.
الجنادرية لم تعد ذلك العمل الأحادي، المعزول، الذي يعكس مجهود وزارة أو جهة رسمية ما، بل أصبح ونأمل جميعاً ان يستمر في المستقبل بكونه نافذة سعودية للوطن وللناس وللتاريخ وللعادات والتقاليد الكريمة، وأيضا يبقى جسراً للتواصل الإنساني بين المملكة العربية السعودية والمنظومتين الخليجية والعربية وبين بقية دول وشعوب الأرض بما يحقق علاقات متوازنة، وينمي مصالح مشتركة ويشي بمسارات للسلم والامن الدوليين التي تتحقق بين الشعوب والأمم بالأعمال الثقافية وأعمال التراث التي تأتي محملة دائما بالأبعاد الإنسانية وقيم السلام والتعاون العالمية.