لم نملك أنا والمذيع المرموق المرحوم سليمان العيسى سوى الجلوس متربعين على أرض صالة الندوة الثقافية الكبرى في الجنادرية الثالثة على ما أذكر. حدث ذلك من شدة التعب ومطاردة الفعاليات والضيوف الكبار من أجل التغطية الإعلامية. كنت وقتها محرراً صحفياً في صحيفة الرياض كُلفت بمتابعة ورصد ونشر كل ما له علاقة بالجانب الثقافي بالمهرجان، الذي اكتسب وقتها صيتاً محلياً وإقليمياً وعربياً كبيراً، باعتباره مبادرة سعودية رائدة وغير متوقعة.
في الصالة، حيث تربعنا نراقب ما حولنا، كان يجلس على طاولة النقاش والمداخلات يوسف إدريس ومحمد أركون، رحمهما الله، وآخرون من جهابذة الثقافة والفكر الذين غابوا عن ذهني الآن. أذكر أن محمد أركون كان يلقي ورقة، ضمن أوراق أخرى لباقي المشاركين، عن الموروث الشعبي في العالم العربي. انتبهت إليه بشدة كوني قرأت له من قبل مجموعة من النصوص والكتب التي فتحت نوافذ كانت مغلقة بشدة على المحلي والسائد. حين انتهى من تلاوة ورقته صفق له الجميع بحرارة ثم نهض يوسف إدريس متجهاً إلى مكان أركون أن إدريس من شدة إعجابه بالورقة قادم للسلام عليه. وحين اقترب منه نهض واقفاً ومد يده للمصافحة لكن إدريس تجاوزه دون أن يصافحه واتجه للسلام على شخص آخر دخل القاعة أثناء إلقاء الورقة.
شعرت بحرج لا يقل عن حرج أركون الذي فاجأه الموقف؛ لكنني تعلمت أيضاً، في تلك السن المبكرة، أن في مدرسة الفكر والمفكرين والمبدعين (غيريات) مثلهم مثل غيرهم من البشر. وأنهم قد يرتكبون، على غير ما ينطبع في أذهان قرائهم، تصرفات لا تمت إلى الرقي والذوق بصلة. وقد أثبتت السنوات بعد ذلك هذه الحقيقة في أكثر من موقف في أوساط الأدباء والمثقفين داخل المملكة وخارجها. ومع ذلك بقيت قادراً على الفصل بين إبداع المبدع وأخلاقه وسلوكياته، حيث أُنزله حين يبدع وحين يخطئ أخلاقياً في حدود المنزلتين: في الأولى هو إنسان يتجلى وفي الثانية هو إنسان ضعيف.