يتمنى كثير من الناس أن تسير حياته بسلاسة ورتابة معتادة وفق ما يتصوره من خط سارت عليه حياة أسلافه من قبله، وبما يتوافق مع رؤية من يجايله في عصره. ولو سألت أحدهم ممن يتمنى ذلك المصير القدري المشابه لغيره في كل شيء، لكانت إجابته أن هذا الوضع هو الطبيعي والمفترض أن تؤول إليه الأمور. ولن يفكر أغلب الناس، الذين يتركز طموحهم في تقليد النماذج الأخرى واتباع السائد، بأن الخروج عن النمط، وكذلك التفكير خارج الصندوق -كما يقال- مفيد جدا للتعود على آليات السلوك الواعي؛ بمعنى أن المرء يعي ما يفعل، ويقصد أهدافًا محددة بغض النظر عن اتفاق الآخرين المعاصرين أو القدامى معه، الذين يصنعون في الغالب خطوط التفكير والسلوك المتوقعة لا شعوريًا في المجتمع المعني.
فقد قال الفلاسفة والحكماء كثيرًا من الأقوال التي تصب في جانب تأييد فكرة تبني الولوج إلى التجارب الجديدة في كل شيء، ففي الإقدام على تجربة الجديد، والبحث عن طرق متعددة للوصول إلى الهدف، مكاسب كثيرة وصقل لقدرات المرء على التفكير. ومن الفلاسفة الذين انغمسوا في هذه الجدلية المفكر الفرنسي، ورائد الوجودية في العصر الحديث جان بول سارتر، الذي كان يبحث في فلسفة الواقع المعيش في المجتمع عن تجارب براجماتية تفصح عن طريقة فهمهم لواقعهم. وسعى في كثير من كتاباته إلى تأطير قيمة تلك التجارب في إنضاج التفكير، وحل المشكلات التي تعترض المرء في الحياة.
أما الحكماء، فأحدهم في العصر الحديث المناضل الكبير وأيقونة القارة الافريقية، وربما العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، وأخيرًا الرئيس لبلاده في العقد الأخير من حياته، نيلسون مانديلا الذي ضرب أمثلة في الإيمان بمدى قدرة الإنسان على تجاوز الصعاب التي يصورها الآخرون على أن تجاوزها مستحيل. فقام بتبديد أسطورة أن الأفكار العنصرية المدعومة بالقوة ستبقى مهيمنة على الناس ما دامت هناك قوة كبيرة تدعمها. وضحّى بعقود طويلة من حياته، وكذلك بحريته الشخصية، في مقابل تحرير بلاده من تلك العنصرية البغيضة. وكان شعاره العريض أن المزيد من تجارب النضال تصقله، وتجعله يستفيد منها في تقوية شخصيته، وأن تلك التجارب بعضها سيكون ناجحًا في تحقيق بعض أهدافه، وبعضها الآخر سيكون مفيدًا في إكسابه الخبرة. وفعلا بدت خبرته الناضجة، عندما أصبح أول رئيس أسود لبلاده في كونه سعى لئلا ينتقم السود من شركائهم في الوطن من الفئات الأخرى (البيض أو ذوي الأصول الهندية)، فحاول أن يكون البرلمان متنوعًا بحيث يحافظ على توازن فئات المجتمع التي تكون نسيج البلاد المتعدد.
وأكاد أجزم أن من تعرّض لبعض أنواع التجارب الكاشفة لأنواع الناس المختلفة، ولطريقة تعامله أو تعاملهم مع جوانب الحياة الجوهرية، سيعيد آليات التفكير في كثير من المواقف، التي يمر بها من بعد. ولن تكون مثل هذه التجارب عابرة، إلا إن كان لا يرغب في الاستفادة مما يتعرض له من مصادر الخبرة المفيدة في مواقف الحياة الصعبة. ومن هنا يصف أصحاب المعرفة الأشخاص الذين لم تعصرهم التجربة بأنهم غفل من آليات النضج في الحكم على الأشياء، والتمييز بين الغث والسمين. وفي المقابل يوجد من تكويه التجارب بمياسم، تجعل نسيانه آثارها غير ممكن، وبالتالي استخلاص العبر اللازمة منها.