كنتُ قد كتبتُ منذ سنوات تحت هذا العنوان في جريدة الرياض عن دور الإعلام في صناعة الرأي العام، وتوجيه القرار. يكفي أي قضية يتداولها الإعلام أن تخضع بالنتيجة لأحكامه وتوجهاته، لأن الجميع يرى فيه شخصية الحاكم بأمر الله ذلك الذي سنّ من القوانين والتشريعات ما يروق له بعيدًا عن الاحتكام إلى أي قاعدة أو نظام، هذا حينما كان الإعلام تلفزيون وصحيفة وإذاعة وحسب، وحين كانت هذه الأجهزة تخضع لسلطة حكومة أو هيئة أو مجلس إدارة، أي عندما كانت تدار بمسؤولية مقننة، إذن.. ما هو حال سلطة الإعلام اليوم بعد تويتر وفيسبوك والسوشيال ميديا بتفريعاتها المتعددة والمخيفة، والتي توفر عشرات المنصات للشخص الواحد، وبإمكانيات وصول مخيفة من حيث السرعة والانتشار.
سآخذ قضية معلم الأحساء الذي فصل من عمله جراء تعنيفه لأحد التلاميذ كنموذج لأثر الإعلام الجديد وسلطته، لا بل جبروته، فالجوال هو بطل القصة، وهو هنا الحاكم بأمره، والمدّعي العام، والقاضي بنفس الوقت. الجوال من خلال كاميرته المخاتلة وضع القصة أمام أعين ومسامع الناس بمختلف مشاربهم وثقافتهم، ليصدروا أحكامهم في هذه القضية بعواطفهم ومشاعرهم إزاء المشهد الذي استغرقه الفيديو، وهذه الأحكام التي لابد وأن تنحاز إلى الجانب الأضعف بالتأكيد شكّلتْ بالنتيجة أداة ضغط على أصحاب القرار، وأفقدتهم القدرة على التعامل مع القضية في إطارها التربوي، لتذهب لاسترضاء القضاة المختبئين خلف حساباتهم، ومعظمهم من أصحاب المعرفات الضبابية، ولتصدر حكمها بإدانة المعلم، وبالتالي فصله من العمل.
لستُ في صف المعلم، لأنني لم أطلع على ملابسات الموضوع، وقد يكون يستحق الفصل، لكني أثق أن الحكم بطي قيده قد تأثر بشكل أو بآخر بتعليقات الذين شاهدوا المقطع، ولأنه لا يوجد نظام تربوي وإداري لمعالجة المخالفات التربوية، ما جعل مثل هذه التصرفات مكشوفة، لذلك أصبح هناك منفذ لضغط الرأي العام الذي استدعى العقوبة القصوى، وهذه مشكلتنا ليس فقط في مسائل التربية، وإنما في مختلف القضايا والشؤون الاجتماعية، وحتى الحقوقية التي لا تتوفر لها أنظمة تحكمها، مما يسلمها بالنتيجة على طبق العواطف الوقتية لسلطة الإعلام الجديد الذي يستطيع أن يخوض فيها كما يشاء لغياب النصوص الحاكمة، وليفتي فيها إما تعسفًا أو تراخيًا، وهذي هي المشكلة.