النشاطات التي أتحدث عنها اليوم ليست كلها اقتصادية أو حركة تجارية كما هو المراد من استعمال هذه الكلمة على ألسنة العامة في الغالب؛ بل إن هناك بعض الظواهر في أنشطة ملحوظة لبعض جوانب حياة الناس لدينا في المدن على وجه الخصوص. وأكثر هذه الظواهر بروزاً في شوارع المدن الكبرى هو تزايد انتشار سيارات شركة «نجم»، وهي الشركة المسؤولة عن تسوية خدمات التأمين في الحوادث المرورية في كافة المدن السعودية. ومن يمعن النظر في الشوارع الرئيسة، وفي زوايا التقاطعات الكبيرة والصغيرة، بل وفي جوانب الطريق في بعض الأحيان، سيجد سيارة من سيارات تلك الشركة بألوانها المميزة واقفة يتحرى الموظف القادم بها وضع الحادث، وينجز أوراق التسوية بين الأطراف المشتركة في الحادث المروري. على ماذا يدل هذا الانتشار الواسع لسيارات هذه الشركة، التي حلت بدلاً من المرور في إنجاز أوضاع الحوادث، التي لا تكون فيها إصابات، وتكون المركبات المشتركة في الحادث مؤمنة لدى إحدى شركات التأمين؟.
أظن الأمر واضحاً جداً في دلالته؛ فهذا الانتشار الواسع مؤشر على أن الحوادث في شوارع المدن الكبيرة على وجه الخصوص قد فاقت المعدل الطبيعي، الذي يستطيع المرور التعامل معه دون الإخلال بوظائفه الأخرى؛ مما دعا المسؤولين فيه إلى تخصيص هذا النشاط، وإسناده إلى شركة تدرب موظفيها، وتصدر وثائق الحوادث بأرقام وتقارير متصلة بأنظمة كل من المرور وشركات التأمين المعنية. لكن ما لفت نظري في المرات التي كنت حاضراً فيها لدى إنجاز تلك التقارير، أن موظفي هذه الشركة أصبحوا يتعاملون مع الحوادث بمشاعر حيادية، وكأنها لم تعد حالات نشاز تبدر من أناس لم يلتزموا بأنظمة المرور، أو يعطوا صاحب الأولوية حقه، أو يحافظوا على المسافة الآمنة بينهم وبين المركبات الأخرى. كما لم يعد يثير حفيظتهم مطلقاً كون أحد السائقين المشتركين في الحادث لا يحمل رخصة مرور، خلافاً لحالات الضبط التي كانت تحدث عندما كان المرور هو الذي يباشر تلك القضايا. وهذا في الواقع استسهال لوقوع مثل هذه الحوادث وتقبّل لممارسة التهور وتعطيل الحركة بتزايد وقوع المزيد منها، ما دامت المركبة مؤمنة!.
أما الظاهرة الأخرى، فهي انتشار عدد كبير من الصيدليات في مدن المملكة بصورة تفوق الحاجة الطبيعية، وتكون مدعاة للتساؤل: هل نحن شعب مغرم بالدواء، أم إننا أناس نصاب كثيراً بالأمراض؟ فمن يشاهد بعض الشوارع الكبيرة في المدن السعودية الرئيسة، سيندهش من عدد الصيدليات المنتشرة فيها، بل إن بعضها يكون مجاوراً أو مقابلاً لبعضها الآخر. صحيح أن الصيدليات الكبيرة أصبحت تبيع أشياء أخرى غير الأدوية، مثل الصابون والشامبو وبعض الكماليات، لكن نشاطها الرئيس هو الدواء، أما الأشياء الأخرى فموجودة أيضاً في السوبرماركت والبوتيكات المتخصصة. وإذا قارن المرء بين أوضاع هذا النشاط التجاري لدينا، وأحوال البلدان المتقدمة، سيجد أنه يحتاج المرء إلى خريطة أو دليل يوضح له موقع إحدى الصيدليات، التي ربما تخدم مئات الآلاف من الناس. وربما كان عدم التكالب على الدواء لديهم، وحرصهم على ممارسة الرياضة والحركة البدنية المستمرة هي ما يقلل الحاجة لديهم إلى الدواء. أتمنى ممن يشكك في صحة ما أقوله أن يتوجه إلى شارع خالد بن الوليد (إنكاس) في الرياض، ليرى العجب العجاب من صيدليات ومراكز صحية!.