تكاد تكون قضية التسول من الأمور الاجتماعية والتنظيمية الشائكة في المجتمع المحلي، وفي عدد من مجتمعات العالم الثالث، والبلدان الإسلامية منها على وجه الخصوص. أما كونها اجتماعياً معقدة، فلأنها تتعلق بفئات من الجماعات الضعيفة في ظاهر الأمر على أقل تقدير؛ لكن ذلك التصنيف السطحي، بكون من يمتهن التسول محتاجا إلى المال بكل تأكيد، ليس أمراً مسلّماً به على أي حال. فهناك قطاع عريض من الناس في عدد من تلك المجتمعات لم يعد مقتنعاً بأن ممتهني هذا العمل أناس محتاجون للمال، أو ينتمون جميعهم للطبقات الدنيا.
وقد أصبح هناك فعلاً كثير من الناس يتعاملون مع هذه الظاهرة بوصفها بؤرة فساد يدخل منها عدد كبير من ضعاف النفوس، الذين يهدفون من خلال هذه المهنة إلى الإثراء السريع، مع إيهام المجتمع أنهم من طبقة المساكين في المظهر واللغة والخنوع. وفوق ذلك كله، فهم يكسبون مالاً دون عمل مقابل مفيد للمجتمع، ولا يدفعون عليه ضرائب في البلدان التي تفرض ضريبة على كل دخل مادي. ومع ذلك لا تتناقص أعدادهم، ولا تقل مكاسبهم خاصة في بلدان العالم الثالث، والبيئات الإسلامية على وجه الخصوص.
وكانت لي تجربتان مباشرتان عن أثر البيئة التعليمية الإسلامية في انتشار نماذج مرضيّة منها؛ الأولى عايشتها في العاصمة الجورجية تبيليسي؛ حيث لم أر متسولاً طيلة الأيام التي كنت فيها هناك، إلى أن رغبت في التوجه لزيارة مسجد إسلامي تاريخي في أحد أحيائها. وبقربه شاهدت منظراً مخزياً لبنات صغيرات في عمر الزهور تلتف كل واحدة منهن كالأفعوان على قدم كل رجل مسلم قادم لأداء صلاة الجمعة في ذلك المسجد، ولا تطلقه حتى يعطيها ما يحرر به نفسه من قبضتها (وهي خلال ذلك التسول والابتزاز تقرأ ما تحفظه من القرآن، لكي تستعطفه وتدعوه لإعطائها أكبر مبلغ من المال). وما أن تتركه إحداهن، حتى تتلوى برجله وتقبّل أقدامه أخرى، في سلسلة لا تنتهي طولاً في الشارع.
أما المشهد الآخر فقد جرى لي عند زيارة أحد الشلالات المشهورة في المناطق الجبلية المحيطة بجاكرتا، حيث يفصله عن المواقف أكثر من كيلومتر في ممر مشاة مرصوف. وما أن نزلت من السيارة، حتى تلقفتني مجموعة من النساء والأطفال؛ فالنساء يتبارين في شرح مشكلاتهن وحالاتهن، والأطفال يقرأون القرآن بأصوات جماعية من أجل الاستعطاف الديني (نفس تكتيك الأطفال في جورجيا مع فارق في اللغة والثقافة وآلاف الأميال من المسافة الفاصلة). وساروا جميعاً معي حتى الاقتراب من الشلال، رغم إيضاحي لهن وللأطفال بأني لن أعطي أحداً شيئاً.
وأذكر أن إحدى المجلات السعودية قد أجرت تحقيقاً بشأن النساء المتسولات عند إشارات المرور في شوارع الرياض، واكتشف الفريق الصحفي أن هناك سيارات فارهة توزعهن في وقت محدد، وتعود لأخذهن في أوقات متأخرة. إذن هي تجارة مافيا، لها أساليبها وتقنياتها، ووسائل التدريب كتعليم الكلمات المؤثرة على كل فئة من الناس، وطريقة الوقوف واللباس، وربما حتى قطع بعض الأعضاء لدى الأطفال المختطفين، الذين توظفهم تلك العصابات في هذه المهنة. وأظنها لن تنتهي، إلا إذا اقتنعت الفئة الباقية، التي ترى أن إعطاء المال لهؤلاء المتسولين لا يضر، أو ربما يكون له الأجر عليه؛ بأن أولئك لا يمتون إلى المحتاجين بصلة!