لا شك في أن كثيراً من القراء يسمع ويقرأ بين حين وآخر عن ثورة علمية أو تقنية في مجال من المجالات المتعلقة بصناعة منتج معين، أو تطبيق عملي في جوانب الحياة المختلفة. وبالطبع تتعدد درجات الأهمية في كون تلك الثورة (بمعنى التغير الجوهري في العناصر الرئيسة المستخدمة في التقنية الجديدة) تبعاً لأهمية استخدام المنتج، وإمكانات التحول اللاحقة بعد إدراجه في صميم الدورة الكاملة في ذلك المجال.
فمثلاً عندما بدأ البشر بالتحول مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا من القوة الميكانيكية إلى القوة الذاتية في العربات باستخدام البخار، ثم الفحم والوقود الأحفوري بعد ذلك؛ لم تكن تلك نقلات اعتيادية، بل تبع كل مرحلة تغير في المواد اللازمة والصناعات المصاحبة، واختلاف كلي في ميادين الصناعات المساندة للتقنيات الجديدة. والشيء نفسه سيحدث في هذا القرن مع الابتكار الياباني الجديد، المتمثل في اختراع غشاء من البوليمر، فيه مسامات تسمح بتسرب الماء، لكنه لا يسمح للبكتيريا بالعبور منه إلى الجهة الأخرى، له استخدامات متعددة في صناعات متقدمة واعدة، بعضها طبي وبعضها يسهم في تجويد صناعات قائمة. لكن ما يهمنا في هذه المقالة هو ما يتعلق باستخدامها في الزراعة.
فمن خلال هذا الابتكار يمكن للبشر أن يقوموا بزراعة كثير من المزروعات دون الحاجة إلى تربة؛ أي أن ذلك العنصر الرئيس في الزراعة منذ أن قام الإنسان بممارستها على الأرض لم يعد ضرورياً. فشرائح البوليمر تلك يمكنها أن تكون بديلاً للتربة في مسك الجذور، وتغذيتها بالماء والمواد الضرورية للنباتات المزروعة على سطح شاشة البوليمر. بل إن هذا الاختراع يقوم بوظيفة أفضل من تغذية الجذور من خلال التربة، التي تعوّد عليها البشر خلال ملايين السنين؛ حيث يمكن لمتابع الشتلات أو الأشجار القائمة بإعطاء النباتات المواد المغذية بدقة وإتقان (الكميات المطلوبة من العناصر التي تحتاجها كل نبتة حسب نوعها وحجمها وثمرها)، كما يمكنه فحص الجذور من خلال رفع سطح البوليمر والاطلاع مباشرة على حالة الجذور دون تأثرها مطلقاً بتلك العملية، خلافاً للحالة في تداخل الجذور مع التربة. كما أن هناك ميزة كبيرة لاستخدام هذه التقنية في الزراعة - عدا عن توفير الماء وعناصر التغذية وتوجيهها وقياسها باستمرار من خلال مجسات توضع تحت سطح البوليمر - وهي أنها يمكن أن توفر زراعة في السقف مقلوبة إلى الأسفل، من خلال تثبيت ذلك السطح على سقف الغرفة أو كراج السيارة أو حتى مباني الخدمات العامة. فيوفر مجالاً إضافياً للزراعة لم يكن موجوداً من قبل، ويعطي قيمة جمالية للأماكن باختيار بعض النباتات الجميلة والخفيفة، لتزيين المساكن والطرقات وأماكن الخدمات.
وهناك مجال ربما يكون ضرورياً للاستفادة من هذه التقنية الثورية، باستصلاح بعض جدران المركبات الفضائية في الرحلات الطويلة، ربما للحصول على الغذاء اللازم، وكذلك تحسين جودة الهواء في المركبة، ثم نقل بعض تلك النباتات إلى بعض الكواكب، إذا كانت رحلة المركبة ستهبط على أي منها. فهل سنرى تطبيق هذه التقنية قريباً في بلداننا، حيث تكون درجة الحرارة في الخارج مرتفعة جداً، فيكون تجميل جدران المنزل وبعض طرقاته من الداخل ضروريا للمنظر وجودة الهواء؟ كما أتمنى أن تسعى كراسي البحث في جامعاتنا إلى دراسة إمكانات الصناعات الموازية لهذه التقنية الجديدة.