أحب الطالبات المشاكسات اللائي يفكرن بما يتلقين وتكون لهن وجهة نظر فيه، واستمتع بالنقاش مع من يخالفني الرأي. فمن يتفق معي في كل شيء لا يوسع أفقي ولا يلفت انتباهي لقصور في وجهة نظري. عندما أدرس مادة تاريخ العمارة في السعودية مثلا يهمني أن تُكون الطالبة نظرتها الخاصة ولا تتبنى رأيي دون تفكير.
فالحقائق وإن كانت صحيحة لا تكتمل أبدا للوصول إلى رأي متفق عليه أو حقيقة مطلقة، وبهذا يقع على عاتق المتلقي جزء كبير من تفسير الأحداث والربط بين المؤثرات.
من يناقش في بعض ثقافات العمل يبدو «للتقليديين» بأنه صعب المراس. قد يستبعد خوفا من أن يعطل رؤية المدير المتمسك بوجهة نظره الفردية. بدلا من المشاركة في بيئة تنمي الإبداع يطلب من الموظف الانصياع والرضوخ وتنفيذ الأوامر على مبدأ «سم وأبشر».
وإن كنا نسمع عن تشجيع الإبداع والابتكار فلا بد أن نعرف أن الإبداع يحتاج بيئة معينة لينمو. فهو ليس مكونا يمكن إضافته على بيئة حالية ونتوقع أن يأخذ شكله المطلوب. بالبيئة أقصد البيئة الإدارية الإجرائية والبيئة الفيزيائية المحسوسة وكل ما يحيط بالعمل. فمن أراد أن يزرع نبتة استوائية في شمال أوروبا لن ينجح إلا في حال تم توفير البيئة المناسبة بعناية. ومع ذلك هناك دائما تخوف من أن النبتة قد تموت في أي وقت لاختلال توازن العناصر الأساسية.
نفس المبدأ ينطبق على المؤسسات التي تحاول تشجيع الإبداع فقط من خلال إضافة كلمة «الإبداع» في رؤيتها ورسالتها. إن لم تكن البيئة الإدارية تسمح بالمرونة وبعض التخلي عن التزامات العمل المعيقة فلن يتعدى الإبداع الحبر على الورق.
في شركة قوقل تتوفر بيئة عمل مجنونة يرغب فيها كل مبدع. تمتاز بالمرح واللعب وتعطي حريات كثيرة. ففي فترات عدم التركيز يكون العقل نشطا جدا وفي فترات التأمل تنتج أفضل الأفكار. أما بالحديث عنها مع الغير فتنضج وتكبر ويتم صقلها.
لو ذهبت غدا إلى مديرك لتطرح فكرة الدوام المرن أو تطلب زيادة أماكن لقاء وتجمع الموظفين والمزيد من الخدمات وفرص الترفيه على غرار مقر شركة قوقل فإن المدراء التقليديين لن يتقبلوا الفكرة؛ لأن «شكل» العمل الذي يعرفونه لا يتوافق مع هذه البيئة. بل قد يتعدى الأمر إلى الشعور بالتهديد من قبل هذا الموظف الذي يشجع على الفوضى وقلة الانضباط واستغلال الوظيفة لمصالحه الشخصية. إن المبدعين أناس يمتازون بأنهم لا يخشون أن يظهروا بشكل مختلف عمن حولهم لأنهم في سبيل تتبع الإبداع فقدوا الخوف من الاختلاف. فالإبداع يتطلب نوعا من الحرية التي لا يمكن أن ينالها شخص يود قبل كل شيء الاندماج والتقبل التام من مجتمعه. ولكن هذا المبدع لن يعمل في بيئة خانقة تقتل فيه الحماس وتطلب منه نتائج مضمونة دوما، فالإبداع يتطلب المخاطر.
من السهل جدا أن نحتفل بالمبدعين بعد أن ينجحوا أي احتفالا بثمار الإبداع ولكن من الصعب أن نشجع المبدعين أثناء مسيرتهم عندما نحكم عليهم بالمعايير التقليدية. إن كنا فعلا نشجع الإبداع فلنتعرف على ما يعيقه من سلوكنا ونهيئ للمبدعين البيئة المناسبة.