وعندما تطور الإنسان وأصبح أكثر نضجا وأكثر فهما لظواهر الطبيعة التي تحكمها قوانين منتظمة لا كلمات سحرية وأوراد غيبية، أصبحت تلك المكونات عبئا على اللغة، وعلى تفكير الإنسان المشتت بين حياته وثقافته التراكمية. فبدلا من أن تصبح اللغة وسيلة لتحسين طرائق الاتصال وبيئات التعاون بين أفراد المجتمع، تحولت إلى وسائل الصراع السياسي، حيث أصبحت هي الطريق الوحيد للتعبئة السياسية. ولا يمكن دونها للزعامات السياسية أن تكسب أيا من المعارك التي تخوضها، وكذلك الفرد في المجتمعات البشرية يحتاج إليها لبث مشاعره من لواعج الحب، أو ألم الشكوى، وغيرها من الموضوعات التي لا تنضبط اللغة فيها بأطر عامة لكل البشر، ولا تتقارب أيضا عند استخدامها لدى أفراد المجتمع الواحد.
وقد قامت بعض المحاولات التي أرادت التأسيس لنظرية معرفية على ضوء المنجزات العلمية الحديثة، لكنها لم تكن تكفي للتعبير عن كل متغيرات الواقع، خاصة ما يتعلق بالأشكال الرمزية التي تكشف عنها الثقافة، ومنها على وجه التحديد اللغة والدين والأسطورة والفن، لأن هذه الأشكال تمثل فهما مختلفا ومغايرا للواقع. فما الذي يحدث في أغلب المجتمعات البشرية، التي بقيت فيها هذه الأزمة قائمة بين الثقافة وأطر تنظيمها معرفيا؟
ما يحدث في حقيقة الأمر أن المخرج الوحيد من الأزمة كان في تجميد الثقافة، بحيث تأخذ أشكالا ثابتة، تُتلقى كما هي دون تعامل مباشر للعقل الواعي مع عناصرها. وهذا أدى في كثير من المجتمعات إلى شعور الفرد المتلقي هذه الثقافة الجامدة بغربة شديدة في التعامل معها، أو أن يشعر بغربته هو عن الواقع الذي يعيش فيه، مع ما يتبع ذلك من ردود فعل متشنجة في محاولة لمعرفة موقعه، وموقع هذه الثقافة من جهة، وعلاقته بها وعلاقتها بغيرها من الثقافات من جهة أخرى. فقد أكد كثيرون أن مراجعة الوعي في ميدان الثقافة لا تتم إلا بنقد الثقافة، ولا يشكل هذا النقد أيضا إلا لحظة من لحظات النقد الاجتماعي، ولا يتحقق أيضا إلا به. في الوقت نفسه، يتصل نقد نقل التكنولوجيا واستهلاكها فحسب، دون الإسهام في إبداعها أو صنعها، بالاستقلال أو التنمية المستقلة، وبقضايا التعبير عن الاستقلال أو التنمية المستقلة، وهي شواغل أساسية في حل هذه المعضلة الذاتية. وقد وجد محمد عابد الجابري أن «الاستقلال الثقافي ليس مواجهة الآخر فحسب، بل هو أيضا مواجهة الأنا، أنانياتها وأوهامها». فالثقافة تكون قادرة على صنع تجديد حياة المجتمعات والتمهيد للتنمية الاجتماعية والسياسية، في حالة كونها خاضعة للمراجعة والنقد، فالتجديد منطلقه ثقافي دائما. فتقدم المجتمعات مرهون بتبني قيم حديثة، وأنماط فكر وحكم حديثة، فهو إذاً شأن ثقافي يشمل جوانب الحياة كلها. وقد خاض الفكر العربي كثيرا في إمكانات التحديث، ومعالجة المشكلات الأساسية، ومنها: مشكلات الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وحسم جميع الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية، بما يحقق أمن المجتمعات البشرية واستقرارها، وبما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحفظ الكرامة الإنسانية. وهذه ربما تشكل الحلقة الأخيرة من تطورات الإسهام اللغوي العنيف في صنع الخطاب الثقافي المتحيز، والذي أصبحت معالجاته لدى علماء الاجتماع وعلماء النفس التطوري قائمة على قدم وساق. لكن المعول في عصرنا الرقمي هذا أصبح على وعي الفرد بتلك المزالق، التي تجره إليها اللغة، من أجل خطاب ثقافي زائف.