تتعارض حالات الاندماج الثقافي بين فئات المجتمع المختلفة مع السمات الجمعية، التي يبدو أن اللغة تفرضها في صناعة الخطاب الثقافي لأي أمة أو مكون رئيس من مكوناتها. ولا يبدو أن هناك مجتمعا قديما أو حديثا يشذ عن هذه القاعدة، ترسيخا لما سبق أن جرى توضيحه في مقالة الجزء الأول. وبرغم كل ما قيل وكتب عن اللغة، وعن إنجازات العلم الحديث في تفسير أدوار اللغة؛ إلا أن القليل من النتائج قد تبلور في إطار علاقة اللغة بنظم الكون، حسبما يراه الإنسان من خلال لغته. والمشكلة العويصة في هذا النوع من البحث أن الإنسان لا يستطيع أن يرى هذه النظم الكونية دون اللغة. وهنا يصبح المبحوث هو الناقل لكل ما يريد العقل أن يتوصل إليه من ذلك الشيء. وفي هذه المحطة (تشيؤ اللغة) يبدو عوار منطق هذه المباحث، مما يجعلها تفشل كثيرا في تفسير كنه اللغة الشعرية والمستويات العليا والمركبة منها على وجه الخصوص.
ففي اللغة الشعرية تكون الإيحاءات هي الوسيلة لاستنطاق الواقع وليس الأصوات، وفي الممارسات السحرية تكون الأصوات مع الرموز قادرة على صنع معجزات جلب الهوى أو قلب الواقع أو التنبؤ والحصول على ما لا يحصل عليه بغير تلك الطريق.
أما في الطقوس الأكثر تمدنا، فقد سيطرت ثقافة الرياضات الاحترافية، خاصة كرة القدم، والهوس بالنجوم (في الرياضة أو الغناء أو التمثيل)، ومتابعة المنافذ الفضائية والالكترونية في انتزاع الفرد من مجتمعه الصغير إلى فضاء متخيل يندمج فيه مع أفراد آخرين مجتلبين في جمع يكتسب صفات هوية جديدة ومتغيرة. لكن قوام الهوية في المجتمعات المصطنعة هو صيحات لغوية مشتركة وعناصر لغوية فاعلة، تمثل مفاتيح السر في عالم يزداد اتساعا، وتزداد اللغة فيه غموضا وفاعلية بعد أن خفتت أضواء الهوية المتقوقعة.
فإذا كانت اللغة تشكل العالم المشترك للأفراد والجماعات، وإذا كان إدراك العالم الخارجي لا يتم إلا بواسطتها، وأنها – كما يؤكد إرنست كاسيرر – أحد الأشكال الرمزية الأساسية، فلا بد أننا سنعتمد عليها كليا في الحصول على مصادر المعرفة. وكما هو معروف أن العلوم أنماط من النظم الرمزية، فإن ثقافة البشرية ستكون قائمة على هذه الوظيفة الأساسية للغة (الوظيفة الرمزية).
من أجل ذلك يحدث تغييب بعض العناصر عن تلك الأنساق الرمزية، كما يحدث تحوير لعناصر جوهرية أخرى من عالم الواقع مثل عناصر الزمان والمكان، التي تختلف حالتها تبعا للمفاهيم التأويلية أثناء إدراجها في النسق الرمزي، وأيضا تتعرض لتطورات في مسار الفكر اللغوي عند تعدد حالات استخدامه وتداوله في بيئات متباينة. ولم تكن رحلة الإنسان مع اللغة سهلة؛ فهي ذات طبيعة مجازية غير قادرة على وصف الأشياء مباشرة، وتلجأ إلى الطرق غير المباشرة في الوصف وإلى الألفاظ الغامضة والملتبسة. وقد وجدت الصعوبات الكبيرة منذ استخدام الإنسان اللغة، حيث لم يكن يفصل بين الطبيعة والمجتمع، فكانت اللغة تشير إلى عناصر الطبيعة وعناصر الحياة بوصفهما شيئا واحدا أو شيئين متقاربين. وكان للكلمات السحرية فيهما دور كبير لبساطة تفكير الإنسان وغموض عناصر الكون.