كان إعلان استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية التي لم تدم غير عام (نوفمبر 2016)، خطوة لكثير من المراقبين للمشهد السياسي متوقعة تماما، لكن كانت المراهنة على التوقيت تطول قليلا أم تقصر. فالاستقالة برأيي تأتي ضمن سياقات كبيرة ومتداخلة من العوامل الداخلية والاقليمية والدولية والتي يمكن تلخيصها بالآتي:
أولا: هشاشة الحكومة وجبروت الأزمة
في محاولة لإنهاء حالة الفراغ الرئاسي الذي دام أكثر من عامين بسبب فشل التيارين المسيطرين على القرار البرلماني، (8 آذار و14 آذار) في الاتفاق حول انتخاب الرئيس، والذي أدى بدوره إلى شبه شلل كامل لمؤسسات الدولة، ورغبة في تجنيب لبنان أزمات المنطقة واستئناف الحياة السياسية، جاءت مبادرة الحريري وفريقه السياسي للقبول بمرشح حزب الله الأول، ميشال عون، وعقدت صفقة هشة ضعيفة تقرر بموجبها أن يقبل الحريري بعون رئيسًا للبلاد، على أن يقوم الأخير بتسميته رئيسًا للحكومة إلى أن يتم إجراء انتخابات نيابية جديدة. تم بالفعل اختيار عون رئيسا وتم تكليف الحريري برئاسة مجلس الوزراء في 11 نوفمبر عام 2016، إلا أن هذه الصفقة الهشة لم تدم أكثر من عام وانهارت بإعلان الاستقالة.
عند تولي الرئيس عون الرئاسة وقيامه بزيارة السعودية لمحاولة استعادة العلاقات الطبيعية بين البلدين بعد فترة من الجمود، كتبت مقالا بعنوان «القمة اللبنانية - السعودية.. النتائج المتوقعة» ذكرت فيه ان «التحدي الأكبر الذي يواجه الرئيس عون في مرحلة ما بعد الزيارة، يتمثل في قدرته على اقناع حزب الله بتجنيب لبنان والمجتمع اللبناني مزيدًا من التوترات والأزمات في علاقاته مع العالم العربي ودول الخليج» وذكرت كذلك بالمقال «ان التحول الذي سوف يشهده الموقف اللبناني، هو تحول مرحلي فرضته الظروف التي مرت بلبنان خلال السنتين الماضيتين، وهو ما جعل إيران وحزب الله والموالين لإيران في لبنان، تقدم بعض التنازلات في بعض الملفات وليس لأن لبنان أصبح مستقلا في قراره السياسي»، وهذا ما حصل بالفعل.
ثانيا: تجذر الأزمة وحافة الانفجار
ما نشهده هذه الأيام هو إرهاصات لأزمة تعود، كما ذكرت في مقالات عديدة، إلى أن الأزمة اللبنانية أزمة عميقة تكمن في بنية النظام نفسه والذي يعاني من الطائفية السياسية التي كرسها دستور 1926 والذي ادى إلى الترهل المؤسساتي وخاصة المؤسسات الأمنية بسبب بروز انتماءات وولاءات إلى هويات (ما دون الدولة)، والتي تقوم مؤسساتيا مقام الدولة، وبسبب ضعف الدولة أدى ذلك إلى اتاحة المجال أمام التدخل الخارجي مما أدّى إلى تقييد أي ردع من قبل الدولة وبالتالي شل مؤسساتها.
ثالثا: إستراتيجية لجم إيران
الاستراتيجية التي أعلن عنها الرئيس ترامب في أكتوبر الماضي عام (2017) للجم سياسات إيران التخريبية في المنطقة ومنع دعمها للإرهاب وزعزعة الشرق الأوسط، وأكثر ذراع مخرب لإيران في المنطقة هو حزب الله. فعبر بوابة بيروت ينقل الحرس الثوري وفيلق القدس الأسلحة والإمدادات الأيديولوجية والنفوذ إلى عمق الأراضي العربية في سوريا واليمن والعراق ودول الخليج وغيرها لضرب الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. كما أصبحت لبنان ساحة لتدريب الميليشيات الأخرى على يد حزب الله في كل من سوريا والعراق واليمن ودول الخليج ثم اعادة تصديرها لزرع الفتنة وعدم الاستقرار السياسي في تلك الدول. كما ان حزب الله دخل بثقله بتوجيه من ايران إلى سوريا لدعم الأسد وفي اليمن لدعم الحوثي وفي العراق ودول الخليج. وبالتالي أصبحت هذه الدول بمثابة خط أمامي لمد النفوذ العسكري والاقتصادي الإيراني بواسطة حزب الله وأذرع إيران الاخرى.
رابعا: وقف انهيار الدولة الوطنية
فهذه الأزمات التي شهدتها دول المنطقة خلال ما يعرف كذبا بالربيع العربي كبدت المنطقة خسائر بلغت 614 مليار دولار منذ عام 2011 وأكثر من مليون و340 ألف قتيل وجريح، والأهم من ذلك هو انها أدت إلى تفكك الدولة القومية في هذه الدول ما جعلها بيئة خصبة لولادة عدد من التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها تنظيم ما يسمي «داعش»، مستغلين عدم الاستقرار السياسي في هذه الدول للانطلاق والتمدد في المنطقة وجعلها منصات لاستهداف العالم في محاولة لإعادة تهيئة المنطقة والعالم من جديد من خلال محو الحدود المعترف بها دوليا وتدمير الدولة القومية وكامل النظام الحديث للعلاقات الدولية.
وبالتالي فاستقالة الحريري ما هي إلا فصل جديد ضمن سياقات متعددة كما ذكرت لمحاولة إعادة ترتيب المنطقة بتقوية الدولة الوطنية والسلطة المركزية وعودة الأمن والاستقرار فيها.