DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

استعراض رياضي للمدرسة في سنة 1963.. وتبدو في وسط الصورة المباني الخشبية المهجورة المخيفة (أرشيف الكاتب)

مدارس الشرقية الحنين إلى رائحة الحبر والطبشور وأقلام الرصاص

استعراض رياضي للمدرسة في سنة 1963.. وتبدو في وسط الصورة المباني الخشبية المهجورة المخيفة (أرشيف الكاتب)
استعراض رياضي للمدرسة في سنة 1963.. وتبدو في وسط الصورة المباني الخشبية المهجورة المخيفة (أرشيف الكاتب)
أخبار متعلقة
 
ذات يوم من شتاء عام 1966، اتفقت مع أحد زملاء الدراسة المتوسطة في مدرسة الخبر النموذجية على أن نضع خطة محكَمة للهرب من المدرسة التي كان مجرد وضع القدم خارج حدودها جريمة تستوجب العقاب في صور عدة. لم يكن قصدنا من الهروب الاستغناء عن الدرس بالتسكّع في الشوارع مثلما قد يخطر على البال للوهلة الأولى. بل كان هدفنا هو القيام بزيارة سريعة لمدرستنا الابتدائية لنرى ما حل بها بعد تخرجنا منها. وبعبارة أخرى كان الشوق قد استبد بنا للمرابع التي شهدت ذكريات 6 سنوات كاملة من مرحلة الطفولة والتكوين الأول، وكان الحنين قد فاض لتفقد الصفوف الدراسية التي احتضنتنا ونحن صغار، ولاستنشاق رائحتها المتميزة المعجونة برائحة الحبر والطبشور وأقلام الرصاص. #مدرستنا الابتدائية# وبطبيعة الحال، لا أحد يستطيع أن يتخيل مدى المشقة التي كابدتها مع زميلي للانتقال مشيًا على الأقدام من مدينة العمال في غرب الخبر، حيث كانت مدرستنا المتوسطة إلى جنوب الخبر، حيث كانت مدرستنا الابتدائية، إلا أبناء الخبر من الذين عاصروا تلك الحقبة وعرفوا كيف كانت الكثبان الرملية تفصل بين غرب مدينتهم وشرقها وشمالها وجنوبها. وصلنا بعد جهد جهيد إلى الشارع المؤدي إلى المدرسة، وكان شارعًا متفرعًا من شارع الظهران، وتحيط به من الجانبين حديقتان غناءتان من حدائق بلدية الخبر، تحوّلتا اليوم إلى مجمعات تجارية كئيبة من تلك التي تعجُّ بالعمالة الآسيوية الفقيرة. المدرسة هي الأولى التي بنتها شركة أرامكو في الخبر ضمن برنامج «بناء وتأثيث المدارس في المنطقة الشرقية وتسليمها للحكومة لإدارتها»، وقد أطلقوا عليها بعد افتتاحها في عام 1956 اسم «مدرسة الخبر الثانية»، تمييزًا لها عن مدرسة الخبر الأولى الحكومية التي فتحت أبوابها في عام 1950، علمًا بأنه تم تغيير اسم المدرستين، لتصبح الأولى «مدرسة ابن الهيثم»، والثانية «مدرسة معاذ بن جبل». #التصميم الجميل# كان أول ما يقابل المتوجّه نحو المدرسة بوابتها الحديدية الزرقاء الأنيقة، ولافتة رفعت فوقها تحمل اسم المدرسة وسنة افتتاحها بخط النسخ. إلى يمين البوابة كانت توجد غرفة يقيم بها حارس المدرسة، وإلى يسارها المكتبة المدرسية التي كانت في زمننا تعجُّ بأمهات الكتب في مختلف المعارف والعلوم، بل كانت أشبه بمكتبات الكليات الجامعية (أقول هذا عن ثقة ويقين لأنني كنت أمينها لثلاث سنوات كاملة). وكانت نوافذ المكتبة الطويلة الشبيهة بنوافذ الأبنية المصممة في العهد الفيكتوري تطل على الشارع، وتحديدًا على المكان المخصص للطلبة لوضع دراجاتهم الهوائية والتي كثيرًا ما كانت تـُسرق أو تُتلف بسبب خصومات بين أصحابها أو انتقام أحدهم من الآخر. أما تصميم المدرسة الهندسي فهو التصميم الجميل الذي اعتمدته أرامكو في بناء جميع مدارسها الابتدائية، والذي كان مستوحى من تصاميم المدارس في الولايات المتحدة ومعظم المجتمعات المتحضّرة، فكان بها دور أرضي يضم الصفوف الأولى متلاصقة وفي استقامة واحدة، بحيث تُطِل نوافذها من جهة على ممر طويل يطل بدوره على حديقة غنّاء، بينما تطل نوافذ الجهة الأخرى على ساحات المدرسة المخصصة لطابور الصباح والألعاب الرياضية. وكان يعلو الدور الأرضي دور ثان، مساوٍ له في الحجم ومشابه له في الشكل يضم الصفوف الابتدائية المتقدمة وغرفة استراحة المدرسين ومكاتب مدير المدرسة ووكيلها، علاوة على غرفة الإسعافات الأولية ومخزن القرطاسيات التي كانت أرامكو تتكفل بتوزيعها مجانًا. وقد راعى مصممو المدرسة انسيابية حركة الطلاب وقت الانصراف فجعلوا لطلاب الدور العلوي خيار النزول إلى الدور الأرضي من جهتين إحداهما تقود إلى مكتبة المدرسة فبوابة الخروج، والأخرى تقود إلى المكان نفسه لكن عبر المرور بموقع دورات المياه ومقصف المدرسة والممرات المحاذية لصفوف الدور الأرضي. #العروض المسرحية# كما راعى مصممو المدرسة اشتمالها على مساحات مخصصة لمزاولة مختلف الهوايات والأنشطة. ولعل من حسن حظ مدرسة الخُبر الثانية أنها كانت محاطة بفضاء واسع، وهو ما سمح لها بامتلاك ملعب لكرة القدم بالحجم الطبيعي، كان يُستخدم في نهاية العام الدراسي للعروض الرياضية والكشفية، علاوة على ملعبين آخرين لكرة السلة وكرة الطائرة كانا يُستخدمان يوميًّا في إقامة طابور الصباح وعزف السلام الملكي وترديد بعض الأناشيد الوطنية من تلك التي كانت سائدة في الخمسينيات مثل أناشيد: «موطني»، و«الله أكبر فوق كيد المعتدي»، و«عليك مني السلام يا أرض أجدادي». كما ساعدت مساحة الأراضي الخالية المحيطة بالمدرسة على بناء صالة خاصة للرسم والفنون التشكيلية والأشغال اليدوية منفصلة عن الصفوف الدراسية، ناهيك عن بناء مسرح لإقامة العروض المسرحية السنوية التي كانت في الغالب مقتبسة من المسرح المصري الجاد. ومن الأشياء التي لا يمكن أن تُمحَى من الذاكرة في سياق استرجاع تاريخ هذه المدرسة العتيدة التي خرّجت صفوة شباب الخبر، تلك البيوت الخشبية القديمة الشبيهة بالبيوت التي عادة ما تظهر في مسلسلات رعاة البقر الأمريكية، والتي تُركت مهملة ومهجورة وشبه غاطسة في الرمال على الأطراف الشرقية لملعب كرة القدم بالمدرسة. في داخل هذه البيوت المخيفة وفوق أسطحها المنخفضة وحول هياكلها المهترئة كنا نلهو ببراءة، ونحاول تقليد ما شاهدناه في الليلة الماضية من أفلام «الكاوبوي» التي كانت تعرضها شاشة تليفزيون أرامكو وتستقطب الصغار والكبار مستخدمين مسدسات خشبية وأسماء أجنبية وحركات بهلوانية. ومن الأشياء الأخرى المحفورة في الذاكرة تلك الأفلام السينمائية التثقيفية التي كانت شركة أرامكو حريصة على عرضها علينا من وقت إلى آخر لبث الوعي الصحي فينا وتلقيننا ألف باء الوقاية من الأمراض والاعتناء بالمظهر ونظافة اليد والشعر والبدن. ولعل الفيلم الأكثر التصاقًا بالذاكرة من ضمن هذه الأفلام هو ذلك الذي تمّ تصويره في الأحساء وسط مزارع النخيل والعيون الطبيعية الساحرة وكان بطلَه صبي وسيم اسمه حمد، فتمنى كل منا أن يكون حمدًا. #خبز الهمبرغر# في زيارتي الخاطفة مع زميلي لهذه المدرسة ذات المكانة الخاصة في نفوسنا، حرصنا على أن نتوقف طويلًا عند مقصف المدرسة لاسترجاع حكايتنا معه ومع مَن ظل يتحكّم في بطوننا لسنوات وهو حارس المدرسة «ناصر» الذي كلفته المدرسة بإدارة المقصف والتربّح منه رفقًا بحالته المادية الصعبة.. وهنا كنا نتدافع في الفسحة المدرسية للوصول بشق الأنفس إلى ناصر لنسلّمه عشرة قروش ونستلم منه في المقابل ما كان يُطلق عليه «المقمّر». وكان ناصر بُعَيد انتهاء الدوام المدرسي كل يوم يستقل سيارة أجرة باتجاه حي الموظفين السعوديين بالظهران (سعودي كامب)، وكان يجد هناك مَن يستقبله من أبناء قريته الأحسائية ليبيعه المئات من خبز الهمبرغر المحتوي على شريحة (سيلايس) مربعة من الجبن بسعر أربعة قروش. وفي بداية الأمر اعتاد ناصر أن يبيع بضاعته بسعر ثمانية قروش للسندويش الواحد، لكنه بعد مدة أحضر موقدًا يعمل بالغاز وصار يسخن خبز الهمبرغر عليه ويسميه بـ «المقمر» ويحسبه علينا بعشرة قروش، ثم أضاف إلى خدماته بيع الشاي الساخن بالحليب بسعر خمسة قروش بدلًا من المياه الغازية التي كان يتعب في استرداد زجاجاتها. الموقع الآخر الذي لم نشأ أن نمر عليه مرور الكرام هو المكان الذي تعلمنا فيه لأول مرة الحروف الأبجدية والفتحة والضمة والكسرة.. وهنا في الصف الأول (ج) في نهاية الدور الأرضي كان الرجل الفاضل ذو اللحية المحناة المرحوم (بإذن الله) الأستاذ سيد يلقننا الدروس الأولى في القراءة والكتابة والحساب والقرآن بصبر وتأنٍّ، متحمّلًا شغبنا ولهونا. اعتاد الأستاذ سيد الذي كان متميزًا عن غيره بزيه الوقور المكوّن من ثوب ناصع البياض وصدرية مشابهة في اللون تتدلى من جيبها ساعة مربوطة بسلسلة، أن يذهب نهاية كل أسبوع إلى مسقط رأسه في الأحساء ولدى عودته إلينا كان يحمل لنا في كل مرة مفاجأة.. فتارة كراسات من نوع جديد، وتارة أخرى أقلام رصاص أو أقلامًا ملونة غير متوافرة في المكتبات التجارية، وتارة ثالثة حلويات وسكاكر لم نرَها من قبل. غير أن الرجل لم يكن يوزع علينا هذه الأشياء بالمجان، وإنما كان يخفيها في أدراج مكتبه، ثم يبيعها علينا خلال الفُسَح المدرسية نقدًا وأحيانًا يبيعها بالدفع الآجل للطلبة المعروفين بالأمانة والصدق. #الرسم والأشغال# وكان آخر وقوفنا عند صالة الرسم والأشغال التي لم نكن نحمل لها ذكرى جميلة لأن مدرس المادة الفلسطيني أنهكنا ذات سنة دراسية في تصميم مجسّم كامل لعملية الهبوط المظلي للقوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية على مدينة بورسعيد خلال العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، فكنا كلما أنجزنا له شيئًا وجد فيه عيبًا أو اقترح بديلًا، وهكذا. ومما أتذكره شخصيًّا عن هذه الواقعة أنه ألزم كلًّا منا بشراء 2 كيلو من البرتقال وقص كل برتقالة من النصف بالتساوي وأكل ما في جوفها بحذر ثم تعريض القشور نصف الكروية المجوفة للشمس حتى تجف كي نصنع منها «برشوتات» المظليين. وكانت العملية مزعجة بحق خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن شراء البرتقال والفاكهة في ذلك الزمن كان ترفًا. #الحزام الجلدي# أنهينا جولتنا دون أن نرى معلمين أفاضل تلقينا العلم والتهذيب على أياديهم، فبعضهم كان أنهى عقده وعاد إلى بلاده، والبعض الآخر كان قد انتقل للعمل في مدارس أخرى بالمملكة، والقلة القليلة كانت قد ودّعت الدنيا. لكننا كنا سعداء حقًّا لأننا لم نرَ «م. أ.» المعلم السوداني الذي أذاقنا الويلات وارتكب بحقنا جرائم من تلك التي تُعدُّ اليوم اعتداء على براءة الطفولة. وهذه مجرد شهادة ليس الهدف منها الإساءة لأحد بقدر ما هي تذكير بمشاهد مسكوت عنها كانت تتكرر في مدارس الماضي. وكان هذا المعلم مكلفًا بتدريس مادة الدين، فكان يدخل علينا الصف بجلبابه الوطني الفضفاض وعمامته البيضاء الضخمة حاملًا في يده حزامًا من الجلد ينتهي طرفه بقطعة حديدية حادة، وصائحًا بأعلى صوته «يا ويلكم.. يا سواد ليلكم» فإن أخطأ الطالب في كلمة واحدة أثناء تسميع القرآن انهال على جسمه بالحزام الجلدي ضربًا. وكان يتفنن في إيذاء الطلبة من وقت إلى آخر باختراع أساليب عقابية غير مسبوقة. ومنها مثلًا غرس الدبابيس الحادة في أكف الطلبة لأتفه الأسباب حتى يسيل منها الدماء، ومنها أيضًا قيامه بإغلاق النوافذ على أصابع الطلبة، وغير ذلك من العقوبات الجنونية. المحزن حقًّا أن هذه المدرسة أزيلت تمامًا، واستخدم موقعها في بناء مدرسة ابتدائية حديثة أخرى لكن بنمط هندسي مختلف يعتمد التمدد الأفقي للصفوف الدراسية على حساب المساحات المفترض تركها للأنشطة الرياضية والفنية والمسرحية. وكان هذا أيضًا من نتائج تصميم الأبنية المدرسية كيلا تتمدد رأسيًّا بحجة كشفها في هذه الحالة عورة أصحاب المنازل المحيطة. مدرسة الخبر الثانية قبل اكتمالها (أرشيف أرامكو) داخل مكتبة المدرسة في عام 1962، ويبدو مديرها عبدالله عبدالرحمن بونهية إلى اليسار ووكيلها محمد الشعيبي إلى اليمين (أرشيف الكاتب) طابور الصباح بالمدرسة (أرشيف قافلة الزيت) الطالب عبدالله المدني يقدم أشبال المدرسة في فقرة غنائية على مسرح المدرسة سنة 1963 (أرشيف الكاتب) مبنى المدرسة في الستينيات.. ويبدو إلى يسار الصورة مكتبتها ذات النوافذ العالية (أرشيف الكاتب)