في فترة الدكتوراة كانت عملتي الكتاب. كنت أذهب للسوق وكأنني مجبورة لا أَجِد في الشراء متعة. فبمعاينة المعروضات أجد الحجة بأن ما يمكن أن أشتري به قطعة من الملابس يمكنني أن أشتري به ثلاثة كتب فأبطل الشراء بقناعة تامة. ما عزز لي هذا الموقف أنه في السنة الأولى من الدكتوراة كان لدي أستاذ لديه لبس واحد صيفي وآخر شتوي لا أذكر أنني رأيته بلبس ثالث. في الوسط الأكاديمي البريطاني (على عكس السعودي مثلا) ترى الكثير من الزهد والقليل من التركيز على الماديات وأدوات الترف. كذلك في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) أتذكر ذلك العالم منكوش الشعر الذي رفع بنطاله جزئيا ليظهر شرابات بألوان مختلفة. قد لا يكون الجميع هكذا ولكن يسود الإحساس بأن في الوسط الأكاديمي ما هو أهم من المظاهر.
لكل منا عملته الخاصة وإن كنّا لسنا دولا. نسمع عن سعر ما أو نشتري غرضا ونبدأ بالمقارنة. فالمدخن يقول: «بهذا المبلغ أشتري كرزين من الدخان»، والأم قد تكون عملتها حليب طفلها، أما الكريم فقد تكون عملته «المفطح».
وإن كانت جميع هذه الأمثلة تحول سلعة أو مبلغا مقابل سلعة أخرى فإن هناك نوعا آخر من الدفع والبذل وإن كنت لا أفضل وضعه في إطار الماديات؛ لأن القيمة الفعلية المرتبطة بهذا النوع من العطاء تتعدى العمل المُقَيم وهي الوقت أو بالأحرى وقتك. فما قيمة ساعة تقضيها مع والدتك عندما ترى فرحتها بوجودك معها بكامل الاهتمام مثلا؟ لا يمكن وضع قيمة على هذه الساعة والمكسب الفعلي للطرفين. ما قيمة ساعتك التي تقضيها تقرأ لطفلك قصة أو تبذلها في إسعاد من حولك؟
هناك دراسات مثيرة للاهتمام بخصوص كيفية قضاء الوقت، فأصل ما نعيشه اليوم هو أن يكثر عذر عدم وجود الوقت الكافي مع كثرة الالتزامات. في دراسة مشتركة بين باحثين من جامعات بينسلفانيا وييل وهارفارد (Pennsylvania, Yale and Harvard) طلب من أناس قضاء خمس دقائق في تضييعها بمهمة عد الحروف بينما طلب من الآخرين كتابة رسالة لطفل مريض وإرسالها ثم سئلت المجموعتان عن إحساسهم من حيث كمية الوقت الذي يمتلكونه فكانت النتيجة أن الفئة التي بذلت للغير أحست بأن لديها وقتا أكثر.
في تجربة مماثلة طلب من فئة أن تقضي ١٠ دقائق تقوم فيها بشيء لنفسها لم يكن مجدولا وطلب من الفئة الأخرى أن تقضي ٣٠ دقيقة في القيام بشيء غير مجدول مسبقا من أجل غيرهم، وكانت النتيجة مماثلة رغم تضاعف مدة البذل ثلاث مرات حيث أحست الفئة التي بذلت للغير بأن لديها وقتا أكثر من الفئة الأولى. وصف الباحثون هذا الإحساس بـ«تمدد المستقبل» حيث يقل الإحساس بشح الوقت.
وإنه تحديدا الإحساس بشح الوقت هو الذي يجعلنا نجدول وقتنا حسب الأولويات لئلا «نضيعه» ونركض من مهمة إلى أخرى بينما نتائج هذه الدراسات تشير إلى أنه تحديدا عندما لا يكون لدينا الوقت الكافي فعلينا أن نبذل لغيرنا بعضا منه لأن الإحساس بوجود الوقت يجعلنا أكثر قدرة على أداء مهامنا بكفاءة أعلى دون الإحساس بالضغط الذي قد يؤثر سلبا على الأداء.
لعل أثمن ما يستطيع كل منا بذله للآخرين هو الوقت والاهتمام وهو لا يكلفنا شيئا بل يعد استثمارا ذا عوائد. فلتكن عملتنا المشتركة ساعة بذل وعطاء للغير.