الزيارة التي يقوم بها للرياض هذه الأيام صاحب الغبطة مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك الكنيسة السريانية الأنطاكية المارونية في لبنان، والتي جاءت تلبية لدعوة خادم الحرمين الشريفين، تعكس بمنتهى الوضوح حرص المملكة على إقامة أفضل العلاقات مع كافة مكونات الشعب اللبناني، ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، دون انحياز لهذا الطرف أو ذاك، على اعتبار أنها تتعامل مع بلد واحد بمختلف مكوناته، والذي يمثل فيه المسيحيون ثقلا وازنا، إلى جانب مواطنيهم المسلمين. ولعل هذه الزيارة التاريخية والتي تعتبر الأولى من نوعها لأول بطرك ماروني، تؤكد سعي المملكة لفتح قنوات الاتصال مع كافة الأشقاء، باتجاه رص الصف، ووحدة الكلمة، وهي الزيارة التي كانت مقررة سلفا قبل استقالة دولة رئيس الوزراء اللبناني وتداعياتها، وذلك تأسيسا على مواقف غبطة البطريرك الداعية إلى سياسة النأي بالنفس، ورفض منطق السلاح خارج مؤسسات الدولة، صيانة لأمن لبنان الشقيق، وإبعاده عن لعبة المحاور، وهي مواقف طالما صدرت عن صاحب الغبطة انطلاقا من معرفته العميقة بسر الوجود اللبناني، وضرورة قطع الطريق على من يريد أن يوظفه كساحة لمخططاته.
ويعلق المراقبون أهمية كبرى على هذه الزيارة، انطلاقا من انسجام مواقف البطريرك مع الموقف السعودي الذي لا يريد من لبنان سوى أن لا يكون أداة في يد أي قوة إقليمية، ولا أن يرتهن بقوة السلاح لفئة من الناس لحساب طرف واحد، مما يخل بمعادلة الشراكة، والتعايش السلمي، ويجعله في مهب النزاعات والخلافات والاختراقات التي طالما أوقفت حياته السياسية، وربما أوصدت أبواب بعض مؤسساته السياسية الحيوية، مثلما حدث بشغور موقع رئيس الجمهورية لفترة طويلة نتيجة دخول السلاح على الخط، خاصة وأن لبنان بتركيبته السكانية لا يحتمل إلا ذلك النوع من الديمقراطية التوافقية التي اختارها لنفسه، بعيدا عن الاستقواء بالسلاح الذي لا يزال يستخدمه حزب الله لفرض مرشحيه، وتمرير سياساته التي تخدم الحليف الإيراني على حساب مصالح الشعب اللبناني الذي يئن تحت وطأة فائض القوة، واختلال موازينها بين مكوناته مما جعله يعيش نظاما أشبه ما يكون بنظام الغاب الذي يستأسد به القوي عبر سلاحه بالسلطة، ويحول الآخرين إلى كومبارس، وهذا ما يجعل من هذه الزيارة زيارة تاريخية في سياق المساعي لتصحيح الأوضاع وتصويبها في لبنان.