كنا قد استعرضنا في الجزء الأول، أن عناصر الثقافة تمثل ضغوط المجتمع على أفراده لإنشاء القوانين الخاضعة للأعراف في البيئة الحاضنة لتلك الثقافة، وأن اللغة هي الهوية اللازمانية واللاتاريخانية. ومن هنا يصبح تكوّن أي هوية هو مجال إنتاج الرموز، حيث إن الثقافة جمعية وغير اختيارية، أما الهوية فهي انتماء إلى جماعة أو مبادئ، لكنها اختيار للإنسان الفرد من تلك المسارات المتسربة من ثقافته، أو اللجوء إلى مصادر أخرى، وهذا هو سبب وصفنا للهوية بأنها متجددة.
وتقوم عملية اندماج الفرد في مجتمعه على مدى قدرته أو رغبته في التفاعل مع تلك الهويات الجمعية، ومحاولات السعي للتوفيق بينها، وبين طموحه ورغباته وأفكاره ورؤيته للعالم. وفي عملية بناء مفاهيم هوية الفرد يجري إدراج الضروري – من وجهة نظره - من الثقافة المجتمعية في إطار بنائه الواعي لهويته. ويسهم الوعي الفردي كثيرا في صناعة جوانب ما يشعر به الإنسان أنها هويته الحالية، وأنه الخطاب الثقافي الذي يتماهى معه. بالطبع توجد أعداد كبيرة من الأفراد الذين يتعاملون مع الخطاب الثقافي – في الغالب – دون وعي، وهم بالتأكيد لن يستوعبوا ما يحركهم بوصفه هوية لهم، إلا إذا سمعوه من القيادات الفكرية أو الروحية، التي يثقون في أحكامها. ومثل هؤلاء لا توجد لديهم قدرات فردية للحكم على معايير الهوية. وفي هذا الشأن ربما نستحضر مقولة إمبرتو إيكو عند حديثه عن المشروع الثقافي العالمي المتعثر بشأن زيادة مساحة التسامح العرقي والقضاء على العنصرية في جميع أنحاء العالم قائلا، ان الأمر لا يتعلق بالمال، وإنما بالأفكار؛ فكيف يمكن للقائمين على المشروع، على سبيل المثال، شرح مفهوم العنصرية للصينيين، الذين اقتنعوا لمدة خمسة آلاف سنة، بأن بلادهم هي مركز العالم، وبالتالي يؤمنون بأن عرقهم متفوق على غيره.
هنا يأتي السؤال: هل الهوية استقلال ومواجهة للآخر، أم تجدد ومواجهة للمشكلات؟
ما يميز الهوية الفردية أنها قائمة على الوعي، بما أنها عملية اختيار. فقد أكد كثيرون أن مراجعة الواقع بوعي لا تتم إلا بنقد الثقافة، والهويات الناشئة عنها، ولا يشكل هذا النقد أيضا إلا لحظة من لحظات النقد الاجتماعي، ولا يتحقق أيضا إلا به. وفي هذا الشأن يصبح تكوّن الهوية المتجددة والمعاصرة والمتماهية مع واقع الإنسان قائما على استقلالية تامة في إنشاء منظومة من المبادئ، المتماهية مع أجزاء رئيسة من الثقافة، لكنها ليست مكبلة من خلالها. فالثقافة تكون قادرة على صنع تجديد حياة المجتمعات والتمهيد للتنمية الاجتماعية والسياسية، في حالة كونها خاضعة للمراجعة والنقد، فالتجديد منطلقه ثقافي دائما. مثلما أن تقدم المجتمعات مرهون بتبني قيم حديثة، وأنماط فكر وحكم حديثة، فهو إذاً شأن ثقافي يشمل جوانب الحياة كلها. وقد خاض الفكر الإنساني كثيرا في إمكانات التحديث، ومعالجة المشكلات الأساسية، ومنها: مشكلات الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية، وحسم جميع الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية، بما يحقق أمن المجتمعات البشرية واستقرارها، وبما يحقق العدالة الاجتماعية، ويحفظ الكرامة الإنسانية. لكن تعدد الهويات، ومنها الهوية الوطنية والاجتماعية والثقافية، يجعل عملية صهر مكوناتها جميعا في بوتقة واحدة أمرا عسيرا، مما يجعل كثيرا من الناس غير متأكد مما يدفعه إلى الانتماء هنا وهناك، وخاصة في بيئاتنا العربية المشتتة بين هويات بعيدة المدى وأعراق ومنهج حياة.