المجالس التي كان يعقدها أستاذنا عبدالله الشباط «يرحمه الله» يوم الثلاثاء من كل أسبوع في منزله العامر لا تخلو أحيانا من معارك أدبية تنشب بيني وبينه آخرها تلك التي احتدمت حول فن «القصة القصيرة جدا»، وكنت أرى أن «الرمزية» المتفشية في كلماتها القصيرة تعطي مساحة للقارئ يشحذ من خلالها فكره لاستنباط ما يمكن استنباطه وتخيل ما يمكن تخيله فيشارك كاتبها بشكل أو بآخر في صناعة أحداثها «الغائبة» في تلك الكلمات، وقد يضيف لها أشياء جديدة لم تخطر على بال مؤلفها.
وأذكر في تلك المعركة أن أستاذنا لم يعجبه ما ذهبت إليه ولم يعجبه رأيي الذي طرحته عليه حول هذا الفن رغم تبياني لنماذج منها وتبياني لطرائق فك رموزها بأشكال تضيف إليها ما لم يكتبه صاحبها في النص، وبعد أخذ ورد أنهى الأستاذ الحوار بقوله إن هذا الفن «لن يكتب له الاستمرار وأن مآله إلى فشل ذريع فلا تحاول اقناعي بأنه فن جميل يستحق مني اهتمامًا أو التفاتًا».
هذه الديباجة أردت بها الدخول إلى بيت القصيد معلقًا على كتابين يعالجان فن «القصة القصيرة جدا» لمؤلفهما الكاتب جاسم بن علي الجاسم جاء الأول تحت عنوان «نجمة من تحت الرماد» وجاء الآخر تحت عنوان «صوت الرمل» وبين دفتيهما مجموعة من قصص هذا الفن قد لا أتمكن في هذه العجالة من سردها كاملة؛ لكثرتها فأكتفي بنموذجين منها.
النموذج الأول جاء في المجموعة الأولى بعنوان «صالة» ويتكون من كلمات قصيرة هي «سقط قلبي في صالة المسافرين بين الركاب»، هكذا طرح المؤلف النص باقتضاب شديد كما هو الحال في سائر نصوص هذا الفن القصصي، وحينما يتحرك ذهني لتفسير هذا النص «المبهم» وهو تفسير قد يختلف في مضمونه عن تفسيرات قراءات أخرى أقول إن بطل القصة كان يعيش في حالة حب عنيفة مع فتاة شاءت الأقدار أن تبتعث خارج وطنها للدراسة وقد منحت اجازة قصيرة بعد سنتين دراسيتين ارتأت أسرتها خلالها أن تخطب لابن عمها، وهذا ما حدث بالفعل، وقد تابع البطل أخبار محبوبته وموعد عودتها بعد اكمال دراستها فانتظرها في صالة المسافرين بالمطار، وكانت تلوح بيديها عند وصولها فاذا به يكتشف أنه ليس المقصود بهذا التلويح بل خطيبها الذي جاء يستقبلها في الصالة.
أما النموذج الثاني فجاء في المجموعة الثانية بعنوان «التضحية» وكلماته كالتالي «سقطت على الأرض بعد أن عرفت تضحية حبيبها»، وأفسره بأن الحبيب علم بسفر والدتها الى الخارج للعلاج فلحقها دون علمها، وأخبره الجراح المعالج بأنها في حاجة لزرع كلية فعرض استعداده للتبرع باحدى كليتيه، ونجحت العملية أيما نجاح، وعندما علمت المرأة بهذه التضحية سقطت على الأرض مغشيا عليها، وبعد أن أفاقت أعجبت بمروءته وتضحيته.
هما تفسيران للقصتين أزعم أنهما سيختلفان حتما عن تفسيرات قد يذهب اليها بعض القراء عند قراءة النصين، وهنا يكمن اعمال الفكر وتنشيطه ومشاركة الكاتب في طرحه واثراء العمل القصصي بأبعاد جديدة حاولت اقناع الشباط بها فرفضها مع تقديري لرأيه بكل تفاصيلها وجزئياتها.