تتداخل الهوية في مفهوم العامة مع الثقافة؛ وهي وإن كانت تحتوي عدداً كبيراً من عناصر الثقافة، إلا أنها ليست رديفاً لها، ولا بوتقة جامعة لمكوناتها. فهناك هويات متعددة للإنسان، وثقافات تمتزج في مسيرة المجتمع وتكون تاريخه ومبادئه. وبالرغم من أن المصطلحين جديدان في البيئة العربية، إلا أن تحديدهما الفلسفي والابستمولوجي مرهون بفهم أبعاد كل منهما.
وفيما يخص الثقافة، ففيها عناصر جمعية موروثة ومكتسبة، لكنها تحتوي عدداً من العوامل التي يتشربها الفرد خلال معايشته لتلك الأنماط الجمعية. فالإنسان يتطور جهازه الإدراكي باستمرار، ويتأثر كذلك ببعض عوامل البيئة المحيطة به، فيما يكوّن مؤسسات الثقافة الفاعلة في فكر الفرد وتهيئة قابلياته المتعددة في الحياة. فممّ تتكون هذه المؤسسات الثقافية؟ الواضح في أغلب أدبيات هذا الموضوع، أنها تتكون بالإضافة إلى اللغة (وهي الركيزة الرئيسة في الثقافة) من كل من الرياضيات والنقود والحكم والتعليم والعلم والدين.
وحيث يشكّل المكونان الأول (الرياضيات) والخامس (العلم) قيمة عالمية تشترك فيها المجتمعات الساعية إلى بناء الحضارة، ويشكل الثاني (النقود) والثالث (الحكم) صوراً من السيادة الوطنية المتفق عليها – غالباً – في إطار مجتمع متماسك؛ فإن التعليم والدين هما العنصران اللذان يشكلان مع اللغة وبواسطة اللغة الفارق الفعلي في الأدوار الاجتماعية والثقافية. وعندما يتناغم الدين مع التعليم، أو يصبح التعليم دينياً، فإن دوره الاجتماعي – الثقافي يصبح مهيمناً، ومسخراً اللغة في خطاب سلطوي أحادي الرؤية، بدرجة يعظُمُ فيها مستوى التداخل بين الدين والتعليم.
أما عن دور اللغة في هذه الجدلية، فإن المجتمعات تتفاوت في النظرة إلى اللغة وتعاظم قيمتها في ضبط الأطر الاجتماعية (في السياسة الاقتصاد والدين)، وفي تنظيم العلاقات الثقافية بين الأفراد داخل المجتمع ومع المجتمعات الأخرى. كما توجد مجتمعات تربى أبناؤها على الثقافة الشفاهية؛ فهؤلاء يكونون عادة اسميين، يعرفون الكلمة أو أسماء الأشياء لا الأشياء ذاتها. ويكون همّ هؤلاء الحفاظ على اللغة – الرمز – الكلمة، برسمها ومبناها من دون تغيير بدعوى الحفاظ على الهوية الجمعية، لأن اللغة هي الهوية اللازمانية واللاتاريخية المجردة من الفعل، ولأن اللغة هي الخاصية الحضارية، من دونها يغدو الوجود في نظر هؤلاء صفراً من كل شيء. فكأن الحضارة رسوم أو صياغة كلامية ومضامين تقليدية لا تاريخية الدلالة، وليست الحضارة فكراً وقيماً ونشاطاً إبداعياً وتعبيراً لغوياً يجسد الفكر والفعل مرحلياً، وأن هذا كله مجتمعاً يؤلف معاً الإنسان أو خطاب الإنسان مع الطبيعة والمجتمع، ويمثل طبيعة إضافية متجددة ومعارف وثقافة ننظر ونتعامل عبرها مع الوجود، وترثها الأجيال للتطوير وإضافة المزيد.
لكن الأسماء تطورت إلى رموز تنقل المجتمعات إلى أنساق رمزية تسيطر على أطر تفكيره، وتمنع العقل من التعامل المباشر مع الأشياء بسبب إحلال تلك الأنساق بدلاً منها. وهذا هو ما دعا ماكس فيبر إلى إطلاق إحدى مقولاته الشهيرة: الإنسان ينتج رموزاً ويتشبث بها. وفي مرحلة لاحقة يشتد عود خطاب الهوية، الذي يطرح نفسه بوصفه خصوصية، على المجتمع في صيرورته أن يحافظ عليها، وعلى الآخر ألا يهددها أو يعمل على اختراقها، فتصبح الهوية بذلك بنية مصمتة غير قادرة على التواصل والمثاقفة، على اعتبار أن الآخر دوماً راغب في محو ثقافتها، وجادّ في العمل على تغيير حضارتها ومعالم وجودها. وفي الجزء الثاني نركز على مفهوم الهوية.