كان لجدتي شأن عند جماعتها، تؤخذ مشورتها، ويحترم رأيها. جدتي (فاطمة بنت جميع)، رحمها الله، كانت تمثل جيلًا من نساء حقبة زمنية، قضى عليها جور سوء الفهم، بأنهن ناقصات عقل ودين، وأن مكانهن البيت. جعلوا وظيفتهن الإنجاب، والسمع والطاعة للرجل، حتى وإن كنَّ على ظهر جمل، كما يدعون. جيل جدتي مات في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي الميلادي. ولكن ماذا عن والدتي؟
■■ في صغري عرفت أمي (عاليه)، حفظها الله، راعية للغنم، عرفتها تعمل في الحقول، عرفتها مربية، عرفتها في الأسواق الأسبوعية تبيع وتشتري، عرفتها في كل موقع عمل بجانب أبي، رحمه الله. بل كانت السند القوي، يؤخذ رأيها ويحترم. كانت تقضي معظم وقتها اليومي خارج البيت تعمل، وكان ذلك ديدن كل النساء في بلاد غامد وزهران، وكل مناطق جبال السراة والحجاز الريفية. إلى أن جاء التاريخ الذي عطل المسيرة.
■■ في عام 1972 خرجت أمي من القرية إلى الدمام، دون عباءة، لم تكن تعرفها كبقية نساء القرية والمنطقة، وبدونها كانت محتشمة في زيها. كانت المرأة تلبس ثوبا فضفاضا يغطي كامل الجسم. وحول الرأس والرقبة تلتف الشيلة السوداء، ثم يأتي استخدام منديل عصابة الرأس. والحزام في الوسط. وتلف كل هذا بشرشف أبيض. لا يظهر منها إلا وجهها وكفّاها. وإن صادفها رجل غريب سحبت جزءا من الشيلة كلثام تغطي به نصف وجهها. هكذا كان لبس أمي حتى اللحظة الأخيرة في قريتها. كان ذلك لبسهن حتى في مناسبات الأفراح.
■■ كانت أمي في وضع أكثر مسئولية وثقة بنفسها، إلى أن جاءت مرحلة ما يسمونه بالصحوة، وأدعوها شخصيا مرحلة الهوس. ومع كل ذلك الاحتشام كان هناك من يقول: (أعزكم الله) أو (الله يكرمكم)، مع ذكر اسم أي امرأة. من يقول اليوم بأن المرأة لا تملك إلا ربع عقل، ومن يقول أيضا (ديوث) لكل من يسمح لابنته بدراسة الطب والصيدلة، ما هم إلا أحفادهم، وبصور أخرى ليست من الإسلام في شيء.
■■ وصلت أمي الدمام وكان عليها أن تلبس العباءة لأول مرة، وأصبحت جليسة البيت طوال هذه السنين. ما زلت أذكر بكاء أمي بين جدران البيت، وكان الوادي مسرحا لحياتها اليومية. كانت تبكي على حياة جعلتها خاملة دون عمل. وإذا كان ذلك الأمر لظروف استثنائية، فلم يعد لتلك الظروف مكان، ولكنها مرحلة تتطلب التغيير نحو مستقبل لحياة أفضل، يحكمها الشرع لا العرف والعادات والاجتهادات.
■■ البعض مصر على تحديد وظيفة المرأة ودورها، وأهميتها، ونشاطها ومصيرها، وتحديد أيضا ما يجب أن تقول وتفعل وتتصرف. جعلوها كالشاه عندما تواجه الذئب، وكانت ذئبا مع الذئاب وسبعا مع السباع. اتحسر على وضع المرأة إذا قابلت رجلا في طريقها كيف تهتز ثقتها بنفسها، وكأنها رأت وحشا. تحول الرجال إلى وحوش، والنساء إلى خنوع وضعف ومذلة وهوان. كيف نعيد للمرأة ثقتها بنفسها، وكيف نعيد للرجال كرم حسن التعامل مع النساء وتعزيز ثقتهم بالنساء من حولهم؟
■■ لا تخافوا التغيير، خافوا هذا البعض، الذي جعل المرأة بربع عقل وهو يحمل الدكتوراة، أي علم يحمل، وأي جامعة تخرج منها؟! وأي إرهاب رأي يواجه المجتمع؟! علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة تساؤل وتأمل، هل تصرفات وتفسيرات البعض ضد المرأة من الدين؟! النساء بحاجة قصوى لقيادة السيارة.
■■ واجهوا متطلبات الحياة بالتربية والتهيئة، وبناء الثقة والعلم، والعمل النافع ومكارم الأخلاق. إيقاع الحياة يتسارع ومتطلباتها تتعقد. لنواجه متطلبات الحياة بكسر الجمود، وهذا ليس (دياثة) ونقص عقل، يا من سمحتم لأنفسكم بأن تكونوا وكلاء عن المجتمع، في عباءة الشيوخ والدعاة، خارج نطاق هيئة كبار العلماء.