ليس مهما أن تسعى إلى أن تصبح كاتبًا بالقدر المهم الذي تسعى فيه لأن تصبح إنسانًا. هذه المقولة ظاهريا توحي بأن ثمة تعارضا بين أن يصبح المرء كاتبًا من جهة وبين أن يصبح إنسانًا من جهة أخرى. بل وكأنها تشير بطرف خفي إلى أن كل من امتهن الكتابة ليس بالضرورة أن يكون إنسانًا. والمقصود بالإنسان هنا معناه المجازي وليس الواقعي، أي كل ما يتعلق منه بالمعنى الأخلاقي والاجتماعي والروحي والفكري والأدبي. وبالتالي ما نعده قيمة إنسانية خالدة تفتخر بها الإنسانية جمعاء كقصص الملاحم البطولية، كصانعي المنجزات الضخمة والفريدة في التاريخ الإنساني على جميع الأصعدة والمستويات، كالعباقرة والمبدعين والمصلحين الذين أناروا للإنسانية طرق الرشاد وأضاءوا لهم قناديل المحبة والرقي، هو في عرف هؤلاء جميعهم لم تكن الكتابة شرطًا ضروريًا للوصول إلى ما وصلوا إليه. ولكنها أيضا ليست عائقًا بأي حال من الأحوال.
إذن – على هذا الأساس – لماذا هذا التلازم بين الاثنين الذي صدرنا به المقالة: بين الكتابة من جانب وكون أن يكون المرء إنسانًا من جانب آخر؟
قد يبدو للوهلة الأولى عند القارئ أن لا صلة قوية تجمع الاثنين مع بعضهما وأن لا ثمة تعارض أيضا، فبإمكان المرء أن يكون كاتبًا أو لا يكون كاتبًا دون أن يخسر شيئا من إنسانيته، والشواهد والأدلة من التاريخ كثيرة، فلا داعي للخوض في تفاصيلها، تكفينا هذه الإطلالة البسيطة. لكن السبب القوي الذي يجعل من التلازم بين الاثنين له وجاهته وأهميته يتحدد في أمرين:
الأول هو منزلة الكتابة في سلم القيم حضاريا وثقافيا عند أي مجتمع من المجتمعات. وهو أمر في غاية الأهمية إذ أن انتشار الكتابة في الأوساط الاجتماعية في عصر من العصور وارتفاع شأنها عند الطبقة الحاكمة من أمراء ووزراء وتجار وقادة ووجهاء كما هو عليه الحال أيام قوة الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري والدولة البويهية في القرن الرابع الهجري حيث أصبحت طبقة الكتاب تحظى بمنزلة كبيرة في البلاط السلطاني وبالاحترام والتقدير بين عامة الناس. لكن هذه الطبقة المثقفة لم تكن الكتابة في تصورها سوى مجرد وظيفة أو مهنة يعتاش منها.اللهم إلا القلة الذين نأوا بأنفسهم أو تداركوا أنفسهم في آخر اللحظات. وهذا الأمر بالتالي يبعدهم عن إنسانيتهم، ويقربهم أكثر للركون إلى الصراع لأجل المصلحة، ومن ينظر إلى تاريخ كتاب الدواوين في البلاط البويهي يقع على الكثير من قصص الكتاب الذين يوظفون إبداعاتهم الكتابية لأجل مثل هذه الصراعات. ثاني الأمرين يتحدد بقيمة الكتابة نفسها في سياق ما تحمله من عناصر إنسانية تمس الإنسان من العمق مهما كان انتماؤه أو جنسه أو لونه.