نعرف جميعا أن الاتجاهات السائدة في كثير من مجتمعات الأرض حاليا تكاد ترتكز على ضرورة تحقيق مزيد من الرفاه للناس، وكون هذا الهدف هو ركيزة التنمية في أغلب بلدان العالم. لكن ما لا يتفق عليه الجميع هو تحديد ماهية ذلك الرفاه، فكثير من المجتمعات يسود فيها اليقين، بأن القدرة على توفير أكبر قدر ممكن من الضروريات والكماليات هو التعريف الجيد في تحديد درجة الرفاه، ونيل الحظ في الحصول على الدرجات العليا في ذلك السلّم. فما مدى واقعية تلك الرؤية، وتوافق مبادئها مع جوهر حياة الناس الحقيقية، ممن يُطلب منهم الانخراط في تحقيق ذلك الهدف؟.
تذكرت في هذا السياق قصة خريج هارفارد في إدارة الأعمال، الذي كان قد زار بعض الصيادين البسطاء في أحد سواحل المكسيك، ووجدهم يصيدون أعدادا بسيطة من الأسماك، التي تكفيهم لطعام عائلاتهم، وبيع الفائض في السوق؛ ليشتروا أشياءهم التي يحتاجونها من السوق. وكان ذلك الأمريكي متفاجئا، أنهم يتركون أسماكا كثيرة، كان بإمكانهم اصطيادها؛ ليبيعوها ويجنوا من خلال ذلك الكثير من المال. لكنهم لا يفعلون مثل هذا الشيء، بل يفضلون العودة قبل المساء لقضاء أوقات سعيدة مع عائلاتهم. فعرض عليهم نظريته في توسيع دائرة عملهم، وأن بإمكانهم إذا اصطادوا المزيد من الأسماك وباعوها، أن يشتروا قوارب حديثة، ويبحروا بعيدا عن الشاطئ، ليصطادوا أيضا أنواعا أخرى لا توجد إلا في أعماق البحار. وعندما سألوه عن السبب الذي يدعوهم إلى عمل ذلك، قال: تكسبون المزيد من المال، وتستثمرون في البورصة، وتنعمون برفاهية ليست لديكم الآن! قالوا: ثم ماذا بعد؟ تعيشون في المدن الكبيرة، ثم تضعون لكم بعض المنازل الريفية التي تأتون إليها في نهاية الأسبوع؛ لتستمتعوا مع عائلاتكم وتقضوا أوقاتا جميلة. فقالوا له: نحن نفعل ذلك الآن، فلماذا نؤجل الاستمتاع حتى نكوّن لنا أرصدة بنكية، ونحاول في آخر أعمارنا أن نصنع ما نقوم الآن بصنعه؟ فهي اختلاف فلسفات الحياة بين المجتمعات الطبيعية، والأخرى التي خضعت كثيرا للرأسمالية، فلم تعد تركز على الجوهر.
وفي حقيقة الأمر، أن حياة المجتمعات الحديثة قد تحولت إلى نموذج خريج هارفارد، إذ لا وقت للحياة، ولا وقت للحب، ولا مجال للتمتع بما يملكه الإنسان مع من يحبهم. فالناس تتجه إلى تأجيل كل شيء له معنى، في الغد سيضحكون ويمرحون، أما في الوقت الحاضر فيتجهون إلى كسب المال والتفاني في جمعه؛ لإنفاقه في الغد على ما يبهجهم. لكن ذلك الغد لا يأتي. وفي زمن ما، يجدون أنفسهم محاطين بالمال وبالأشياء، وهم في أعلى السلّم، لكن لا يوجد طريق من ذلك المكان العالي إلا القفز إلى البحيرة. وربما يكون الأسوأ في الأمر برمته، أنهم لا يستطيعون إخبار الآخرين بأنه لا فائدة من السعي إلى هذا المكان، فهناك «لا شيء»! حيث لو اعترفوا بذلك، فكأنهم يقولون إنهم انساقوا إلى الحمق، وأصبحوا مضحكة لمن كان يظن أنهم قدوة له في السير قدما في ذلك الطريق. فعليهم إذن أن يتظاهروا بأن أهدافهم قد تحققت، وأنهم قد حازوا على كل درجات الرضا عن الذات ومسيرتهم في الحياة، فيتظاهرون بأنهم لم يضيعوا أوقاتهم في ملفات التأجيل، بل استمتعوا بكل لحظة من حياتهم كما ينبغي!.