من ضمن الدول التي سكنتها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولا يخفى على أحد الفرق الثقافي الشاسع بينهما والفرق في التعامل مع شعوب تلك البلدين. في بريطانيا كانت لي تجربة مع سكان العمارة التي أسكنها حيث دعوتهم على الغداء يوما واستمتعنا وتحادثنا ولم نترك موضوعا لم نتطرق له. من كثرة استمتاعنا استمرت جمعتنا حتى العشاء. بعد ذلك اليوم تولد لدي إحساس بأنني تعرفت عليهم معرفة جيدة تشمل بعض طباعهم وبعض القصص الشخصية وخلفياتهم وعوائلهم. توقعت أن هذا التجمع ولد نوعا من التقارب والحميمية وأننا في سلم الجيرة أو حتى الصداقة صعدنا عدة درجات. جاءت المفاجأة بعد أيام، عندما التقيت أولى جاراتي التي لم تجتهد في رد السلام وكأننا عدنا غرباء ورجعنا لنقطة الصفر مجددا. وإن كانت هذه جارة واحدة إلا أن الأمر تكرر في محيط التعليم كذلك فأثناء دراسة الدكتوراة كنت أُدرِس في قسم العمارة أي أنني في تلك السنوات تعرفت على مئات الطلاب والطالبات وعندما ألتقي بهم أجِد أن قلة منهم يسلمون وعندما ذكرت ذلك لأحد أعضاء هيئة التدريس البريطانيين رد بأن ذلك ليس مستغربا ويحدث معه أيضا.
على عكس ذلك، الناس في الولايات المتحدة الأمريكية. فهناك تجد من لا تعرفه وقد يكون بائعا أو زبونا أو حارس أمن في عمارة أو أحدا يمر بالطريق يبدأ بالحديث معك وكأنه صديق منذ سنوات. بدايات عفوية مثل تلاقي الأطفال لأول مرة واندماجهم باللعب دون مقدمات. بعد التجارب المتفاوتة جدا وانعكاسها علي بشكل يومي أعرف بأنني أفضل التجربة الأمريكية. ففي بريطانيا تتكرر محاولة الاندماج أو التعرف وتصطدم بشعب منغلق ومتحفظ لا يحاول التقرب. أما في أمريكا فكنت أستطيع التحدث لغالب الناس دون الحاجة للمقدمات ولا التبريرات ودون الإحساس بأن من يقابلني يحس بالريبة تجاهي. كانت لي محادثات غريبة وغير متوقعة في أماكن عدة وهي من المحادثات التي أعطتني قصصا أشاركها غيري وتجعلني ابتسم عند تذكرها.
في التواصل البشري أعتقد أنه من الأجمل أن لا نبدأ في كل مرة من الصفر. لا داعي للشروط والمقدمات في كل لقاء مع الآخر. لقاءاتنا تسمح لنا بالتشارك بالأفكار والآراء وتبعث السرور وتجدد الحياة. لا تدخل في الأسرار ولا الأمور الشخصية بل استمتع بالمحادثة مع غريب دون أن تعتبره كذلك ثم اذهب في حال سبيلك دون التزام تجاهه. إن الانفتاح على الناس شيء إيجابي وإن بدأنا في كل مرة من الصفر لن نصل للجزء الممتع. من الممكن أن نضع عددا من الفرضيات على أنه مسلم بها. علينا أن نفترض أن البشر أساسهم الخير وأن من نقابل يستحق جزءا من وقتنا. كيف سيكون الحوار لو افترضت أيضا أنه صديق تحب له الخير مثلا؟ لا تعط أسرارك من أول لقاء ولكن استمتع بالحديث مع من لا تعرف. فقد تكون المحادثة نافذة على عالم غيرك لها القدرة في أن تغير منظورك للأمور. من السهل أن نحيط أنفسنا بأناس يشبهوننا ويشاركوننا نفس الأفكار ولكنك لن تتعلم منهم ولن تكون معرفتهم وحدهم تعطي حياتك الثراء الذي تحتاجه لتنمو.