تطرقنا في الجزء الأول إلى مقارنة طريقة أجهزة الذكاء الصناعي بآلية اشتغال الدماغ البشري، ووضحنا الفرق بين معالجة الموضوعات المختلفة ذات التباين في موقع تحليلها بين أدمغتنا وبرامج الأجهزة الذكية. لكننا سنتناول هنا موضوع التجارب المجتمعية، التي هي أساس معامل صناعة الأيديولوجيا، والتي قلنا إنها تغذي اللا وعي لدى الفرد، وتصبح مهيمنة على عمليات التحليل الواعية القائمة على المنطق وفق المسلمات المتعارف عليها بين البشر في النظر إلى الواقع. فما يراه الفرد في جماعة معينة بديهيا، ولا يحتاج إلى تفكير، فهو من سلة تلك الخبرات (الثقافية – التاريخية) المهيمنة على اللا وعي لديه. وكان وليم جيمس قد وضع فكرة تلك السلة ضمن دراسته لمفهوم الغرائز، التي لا يكون هناك وعي في العمليات الذهنية المتصلة بها، حيث تجري كلها بصورة آلية خالصة، حتى إننا نعدها «أمرا بديهيا عاديا». وهو ما يقود بعض الدارسين لأنظمة اشتغال الدماغ البشري إلى افتراض وجود جوهر حقيقي هو المحرك لعملية التفكير فيه، والموجه لمجموعات العمل، التي تقوم بتحليل الموضوعات المتنوعة. حيث يجري حل المشكلة المتمثلة في العامل المفقود في نظرية مينسكي بشأن الرابط بين تلك الوحدات المنفصلة، إذ إن اللاعب الرئيس في تلك العملية المعقدة هو مفهوم «الصراع»، الذي هو مسرح اشتغال الدماغ البشري منذ أطوار الإنسان الأولى، التي كان مضطرا فيها إلى تحدي عوامل كثيرة من أجل البقاء. إذ أصبحت تنوعات اهتمام تفكير الإنسان بحاجة إلى فلترة، وإعادة تصنيف، في كل مرة يدخل فيها إلى حقبة جديدة تتصارع قيمها مع ثقافته التاريخية المخزنة في اللا وعي لديه، والمتحكمة في ردود فعله الانطباعية. إذا جدلية الصراع، ليس بمفهوم الفلاسفة أو علماء النفس، بل بما يشير إليه علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية، من كون الدماغ البشري مزودا بآلية بيولوجية تجعل الموضوعات، التي تثير عنده التحدي ومحاولة الوصول إلى نتيجة قاطعة، هي التي تستحوذ على كثير من مجال الاشتغال عليها. فإذا أضفنا إليها تلك التراكمات الآتية من اشتغال جمعي في بيئته على مر التاريخ تحت مصطلحات متعددة، بعضها ثقافي وديني، وبعضها عرقي ولغوي، نجد أن ذلك الخليط ينتج عجينة الأيديولوجيا الجاهزة للإعداد بأيدي طباخين مهرة على شكل مخبوزات عنصرية وتحيزات اقصائية. ومن نتاج أولئك الطهاة مصطلحات متعددة تسهم في تسويق البضاعة، مثل: «الأعداء» و«المؤامرات»، و«الخبثاء»، و«الخونة»، وغيرها من وسائل تحفيز أدمغة البسطاء على الاشتغال العفوي (بأثر من فاعلية الصراع)، لابتلاع الطعم الذي يريدون تغذية الفكرة الأيديولوجية من خلاله. غير أن المشكلة ليست فيما يفعله أولئك المبتزون أيا كانت مهنهم أو أهدافهم، بل إن جوهر القضية يكمن في استجابات البسطاء بسهولة لتلك المصيدة. فتصبح أدمغتهم مخزنا لتلك المصطلحات، ويجتهد كثير منهم في ربط كل فئة منها بتداعياتها في ذاكرته من أقوال ومأثورات محفوظة عن أقوام سابقين، يرى فيهم الصلاحية للاقتداء بهم. فتكون بذلك كل منظومة الأفكار الأيديولوجية، التي زرعها في أذهانهم بعض الغوغائيين، كتلة من الخصوصية التي لا تقبل المساس بها، إلى الدرجة التي يتحول فيها الدماغ الواعي وأجهزته إلى استقطاب ما يدخل في الوهم ضمن منطق الأمور. ويهب للدفاع بضراوة عن هذه الأوهام المكتسبة، لتكون هي «إعدادات المصنع» (حسب التوصيف الحاسوبي)، بوصفها إحدى محددات الهوية الثقافية.