كنت وإياه في شرفة «شقّته» القاهرية إبّان النسخة 27 على ما أعتقد من معرض القاهرة الدولي للكتاب، نراقب انحناءة النيل من موقعنا في أبراج أغاخان في حي شبرا الشعبي الشهير، حيث مراكب الصيادين تعبث بصورة شمس فبراير على صفحة الماء وكأنها تريد أن تطفئها، فيما تترك خلفها عشرات الخطوط المائية الفوضوية التي سرعان ما يمحوها النيل بسماحته وهدوئه، بل بقدراته الخارقة على «حمل الأسيّة»، وهو الذي طالما تحمّل فوضويّات الناس وعبثياتهم، وابتلع مخلفاتهم دون أن يغصّ بها، ودون أن يشكو أو يمتعض أو يتذمر، أو حتى يتأبّى على الجريان. حينها كانت أحداث الجزائر في أوج اشتعالها، فيما كانت عواصف الخلافات السياسية تعصف بالسودان، واليمن والعراق وغيرها من بلاد العرب.. قلتُ له وهو يرتشف قهوته ببطء:
أبو عبدالعزيز.. هل حدث وأن كانت صفحة النيل نقية بما يكفي لمشاهدة ما تحتها؟. ضحك وأجاب على الفور: لا.. لا أظن.. ولا حتى في زمن هيرودوت!، حينما كانت مصر هي هبة النيل، فالنيل نهر عربي، وبالتالي فلابد أن تكون له نفس صفات قومه وخصالهم.. ثم توقف قليلا عن الكلام، وراح يحدّق في السقف الفارغ إلا من ثريا كهربائية شحيحة الإضاءة، وعاد ليكمل حديثه.. قال:
انظر كيف يتقاتلون في الجزائر باسم الدين، انظر ما يحدث في السودان وكله باسم الله، وما يجري في اليمن باسم الوحدة والعروبة، وما يحدث في العراق وفي لبنان، لقد انتزعتْ سايكس بيكو منا مشاعر الوحدة وإرادة الانتصار، ودسّتْ في أوصال بلادنا نوعًا من السوس الكفيل بضرب أي فكرة تجمعنا مع بعضنا، لتبقى مياهنا عكرة على الدوام بحيث يلزمك أن تشربها كما هي دون أن تتمكن من رؤية ما بداخلها من العلق تمامًا كمياه النيل.
ويشهد الله أني ما كنتُ أبطن في سؤالي أكثر مما يبوح به ظاهره، لكنني فرحتُ بغوايته لأستنطق المعلم الذي يبدو أنني استفززته جيدًا حينما قلت له: ولكن مياهنا أكثر نقاء لأننا متشابهون في كل شيء؟، عندها تغضّن جبينه وقال: أرجو ألا تنخدع فالاستعمار قد دقّ أسفينه في كل مكان قبل أن يحمل متاعه ويمضي.