في أحاديث جرى تداولها عن كون الغربيين إذا أتوا إلى منطقة أحيوها، وحولوها إلى قوة منتجة، حتى لو كانت ظروفها المناخية والطاقات البشرية فيها ضعيفة، كان البحث عن الأسباب في كون الغربي في العصر الحديث يقهر الظروف، ويتخطى الصعوبات مهما كان نوعها، بينما تعلق شعوب كثيرة أسباب العجز على أمور خارج ذواتها! لكني عرفت أحد الأسباب في تأمل لمجموعة من بعض أبناء جلدتنا، الذين كانوا يريدون استعمال مغاسل دورات المياه في أحد المطارات للوضوء، بالرغم من تنبيه العاملين فيها إلى أن هناك أماكن مخصصة للوضوء عند المصلى على بعد أمتار عن دورة المياه. فأصروا على استعمال غير المناسب، حتى لا يصرفوا جهدا للوصول إلى ما هو مناسب. وملأوا الأرض بالمياه، وطيروا الماء على من يجاورهم، خلال محاولاتهم إدخالهم كامل أذرعتهم في المغاسل المحددة لليدين فقط. ثم حين دخلت إلى الكافتيريا الوحيدة في تلك الصالة الكئيبة المخصصة للمتجهين إلى جدة والمدينة في موسم الحج والعمرة، وجدتها تعج بالمدخنين رغم منع التدخين في كامل المطار، ومعلق فيها مبلغ الغرامة لمن يخترق الحظر. وعندما قدمت الملاحظة للعاملين فيها، وأشرت إلى اللوحة التي توضح منع التدخين، وتؤكد الحزم في المعاقبة بمبلغ محدد، قال لي أحدهم: لا، التدخين مسموح في الجهة اليمنى، لكنه ممنوع في الجهة اليسرى. فرددت عليه: المدخنون يوجدون في الجهتين! فقال: سأنبههم لذلك! وقبل أن أخرج من الكافتيريا صورت اللوحة والمدخنين، الذين لم يكدر راحتهم أحد، وحين لاحظ ذلك المسؤول جاء إلى أحدهم ينبهه متلطفا، وكأنه يطلب منه التفضل بحسنة عليه. فخرجت وجلست في الصالة، وبعد وقت قصير، أتاني من يزعم أنه مدير الكافتيريا معتذرا، ويطلب مني بألا أكون قد «زعلت». قلت له: أنا لم أغضب لأمر شخصي، لكني حزين على الوضع الذي أصبح الناس فيه، حين تصبح الأنظمة لا قيمة لها، وبدلا من فرض القوانين يتوسل الناس المخالفين بأن يخففوا من مخالفاتهم.
فأصبح يكرر طلب الصفح، ويعرض علي أن يضيفني بأي شيء أريده. وأظنه كان يخشى أني صحفي سأنشر تلك الصور، أو سأشتكي إلى إدارة المطار وما أشبه ذلك.
أما الأمر الذي كان أكثر وضوحا من أسباب ذلك البون الشاسع بيننا وبين الأمم المتقدمة، فهو ما قرأته أثناء الرحلة في إحدى الصحف عن الشكوى من ارتفاع أسعار التذاكر، وأن بعضهم كانوا قد باعوا أراضيهم من أجل أن يوفروا تكاليف الحج، واستدانوا زيادة على ذلك، ولم يستطيعوا توفير التكلفة، مما جعلهم يؤجلون الحج إلى فترة لاحقة.
فتساءلت: هل الحج فريضة عين على كل مسلم؟ طبعا كل مبتدئ في معرفة الإسلام يعرف أنه مقرون بالاستطاعة، لذا فهو ليس فرضا على غير القادر. فما الذي يدعو أولئك الفقراء إلى تحمل الديون وبيع مصادر الرزق لأجل توفير ما ليس فرضا؟ ! وعدت إلى تساؤل تلك المحادثات المذكورة أعلاه، بأن البون شاسع في تحكيم المنطق في التصرفات، وفي التخطيط لكل شؤون الحياة. هي مراحل بسيطة يبنى بعضها على بعض من أجل الوصول إلى الإنسان الواعي والمنتج.