جلس ابني يتحدث مع ابن خاله الأمريكي عن بعض الموضوعات، التي كان يختلف فيها التناول بين من تلقى تعليمه العام في السعودية، والآخر الذي تلقى ذلك التعليم في أمريكا، رغم كونه في سن الحادية عشرة. لكن الخلفيات الثقافية وطرق التفكير وعرض الحجج تختلف كثيرًا بين النموذجين، سواء كان الموضوع حسيًا مباشرًا، أو تعلق الأمر ببعض القضايا المجردة التي تناولاها.
وما لفت نظري أكثر في اختلاف نموذجهم الثقافي جوهريًا عن طريقتنا المعتمدة على كثرة المعلومات المطلوب تناولها ومعرفتها، دون الاهتمام بالتيقن من الروابط التي تجمع تلك العناصر، وقيمة كل منها في منظومة السياق الذي ترد فيه. وقد اندهشت أنه لم يكن يعرف نوع العظام، التي تؤخذ منها «وجبة الريَش»، واحتاج إلى توضيح أنها من أضلاع الخروف، في حين يعرف الأطفال عندنا تلك المعلومة لكثرة ما تعطى في مواد مختلفة، وتُعنى بها ثقافة الأسر من جهة أخرى.
وكيف لا يعرفها الأطفال لدينا، وهم يسمعون قصصًا كثيرة عن تهشم عظام الأضلاع، وتوجه إلى بعضهم دعوات بأن تتكسر أضلاعه، أو تحذيرات في أحسن الأحوال من أن يتعرض لكسور في الأضلاع إن هو مارس رياضات معينة. أما صاحبنا هذا، فإنه لم يعرف من تهشم الأضلاع إلا ما يجري لبعض الحيوانات البرية، التي كان يخرج مع والده لاصطيادها، فإذا أطلقوا عليها النيران في منطقة الصدر، فإن القلب والكبد يصبحان غير قابلين للاستخدام؛ لكون بعض الأضلاع قد انغرست فيهما، مما يجعلهما يرميان مع بقية فضلات الحيوان.
أما عند الانتقال إلى بعض القضايا المجردة نوعًا ما، فإن هذا النموذج الأمريكي قد أظهر اتساقًا، وتماسكًا في الحجج لا أجدهما عند من يكونون في عمره ممن تلقوا تعليمهم عندنا. فما هو السبب، خاصة أن مستوى التعليم الأمريكي ليس متفوقًا جدًا على مستوى العالم؟
أظن أن الفكرة الأولى التي طرحتها في بداية المقالة لها علاقة بهذا التباين، من كون التركيز عندنا يكون بالدرجة الأولى على المعلومات، فنجد مادة الجغرافيا والتاريخ، ومواد اللغة العربية والمواد الدينية، وكذلك مواد العلوم المختلفة، وكلها تزخر بتفصيلات يكون التلميذ ملزمًا بها معرفيًا، وليس تأملها ومقارنة علاقاتها بعضها ببعض. فلا يكون الوقت متاحًا للتلميذ ولا للمعلمين أن يصرفوا بعض الوقت في تنمية عقول المجموعة، وإتاحة النقاش فيما يمتع كلاً منهم، ويناسب أعمارهم وبيئاتهم.
والأمر الآخر في ظني متعلق بنقص التطبيق، سواء في المنزل، أو في بعض الأماكن التي يستطيع التلاميذ فيها لدى كثير من المجتمعات أن يمارسوا ما تعلموه، ويطوروا معارفهم فيه، وربما يزداد عندهم الشغف ببعض جوانبه، فيستزيدون منه برغبة تختلف عما يكون مطلوبًا ضمن الواجبات المنزلية. وربما يكون لوجود الشبكة العنكبوتية حاليا دور رئيس في سهولة هذه المهمة في العصر الحاضر، خلافا للأوضاع سابقًا، حيث كان يتطلب الأمر توفير كتب متخصصة ومجلات يبحث فيها المتعلمون بطريقة أكثر صعوبة مما هو الحال عليه الآن. فهل تصغي بعض إدارات تطوير التعليم لدينا لما يطرحه الناس في هذا الشأن، وربما التجاوب مع ما تتطلبه المرحلة الحالية من اهتمام بالآليات؟ أم تبقى في إطار تتبع العناصر المفردة، ومطالبة التلاميذ بحفظها وإعادة كتابتها في اختباراتهم، ليجتازوا المرحلة ويأخذوا شهاداتهم، دون تمثل لما ينفعهم ويطور عقولهم؟.