تتنوع الاحداث والفعاليات الكبيرة، بحسب مريديها ومحبيها، فلكل حدث صداه بحسب جماهيره، كالحدث الرياضي، والفني، وحتى السياسي، وكذلك الاقتصادي الذي هو الأكثر أهمية والأكثر تأثيرا ولكنه الأقل شعبية في تناوله ومتابعته عن باقي الاحداث، ولذا كان الاهتمام بقمة العشرين -أو ما تسمى اختصاراً بـ(G20)-، ليس بالشأن الكبير في عالمنا العربي لأن مريديه ليسوا كثرا على الرغم من الرسائل المعلنة والخفية التي تضمنتها القمة في كل جوانبها والتي تشكل استراتيجيات وعناوين للمراحل القادمة قد تغير العالم.
أبرز ما خلصت له قمة العشرين التي اختتمت قبل اسبوع كان عددا من التوافقات التي بدت فيها صعوبة قبل انعقادها، لصناع القرار الاقتصادي العالمي، ولعلها -أي القمة- تضمر خلف ابواب اجتماعاتها المغلقة أكثر ما ابداه البيان الختامي الذي اتسم بالغموض دون التصريح المباشر.
هناك الكثير الذي كشفت عوراته من خلال القمة والتصاريح والبيانات التي قادت اتفاقات واختلافات في آن، ووجدنا الدور الامريكي هامشياً، مكتفياً بتواجد اعلاني للرئيس الامريكي دون زعامة قد جبلت عليها الولايات الامريكية عشرات السنين في مثل هذه المحافل، ما يعني أن امريكا تسير وحيدة بعيداً عن القطيع، فهل تنتهج سياسة العزلة فعلياً في ظل الرئاسة الحالية؟!
أما فيما تضمّنه البيان الختامي، فقد اشتمل البيان على مفردات دعت للريبة بين المعلن عنه وما تختمره النيات بحسب المراقبين، وليس بالوضوح الذي صرحت به المستشارة الالمانية حين أكدت على نجاحها في»الإبقاء على الأسواق مفتوحة»، ففي الوقت الذي تم حصد موافقة العشرين دولة على التجارة الحرة والسوق المفتوحة، جاء في البيان استثناء مفاده، «مكافحة الحمائية وكل الممارسات التجارية -غير العادلة-، والاقرار بدور يشرع الدفاع عن التجارة بأدوات مشروعة»، وبحسب المراقبين فإن هذا الوصف بحد ذاته يعطي أي بلد الحرية في ممارسات ما تراه يناسب مصلحتها ضاربة بعرض الحائط اي اتفاق تجاري، الامر الذي يعود بضرره على الدول المصدرة والمُصنّعة.
وبحسب المراقبين فإن هذا التوصيف في البيان الختامي والذي جاء ارضاء لامريكا والخروج ببيان متفق عليه، سيقوض التجارة الحرة وانسيابيتها بفرض الرسوم الجمركية بما يتناسب ومصلحة أي دولة، والتي اطلقت ميركل صرخاتها متحدية حين قالت: «سنبقي على الاسواق مفتوحة» بهذا الاستثناء الذي سيغير العرف الذي سارت عليه الاسواق العالمية، فهذا الاستثناء المطاط يشرع سياسة الحماية الفردية لأي دولة ترى في أي اتفاق ثنائي أو حر قد يضر مصالحها «بأدوات مشروعة» لم تسمها ولم تبينها وهذا الغموض في الوصف يعطي حرية في التنفيذ .
من جهة أخرى، أوضحت اللقاءات الجانبية بعضا من التكهنات المستقبلية التي عقدت على هامش القمة، فبعد اللقاء الذي استمر ساعتين بين الرئيس الروسي والرئيس الامريكي، وبعد توافق قوي بين رئيس مجموعة «بريكس» الرئيس الصيني ورئيس الاتحاد الاوروبي المستشارة الالمانية المعارضين بشدة لسياسة الحماية والعزلة الامريكية والتي ستتضرر منها اسواقهما بشكل خاص كأسواق مصنعة، وكذلك الدور الذي لعبه الرئيس الفرنسي الجديد في صياغة بيان الختام بعد أن ابدى الرئيس الامريكي تخاذلا جعله يغادر مبكراً، كل تلك المحطات هي سياسة مرحلية قد تتخذ اتساعا في المستقبل وتعيد تشكيل الخارطة الاقتصادية باتفاقيات وزعامات جديدة.
ويبدو أن انسحاب الرئيس الامريكي كان اشبه بالتخاذل الذي وصفته «صحيفة الإندبندنت البريطانية» بأنه يمثل الدور الانعزالي لامريكا في المرحلة القادمة، وأن القمة أثبتت تخلي العالم عن الدور القيادي لأمريكا، بعد مغادرة الرئيس الامريكي السريعة لمقر القمة، تاركاً كل شيء خلف ظهره.
وبعيداً عن كل تلك الاختلافات يبدو أن المملكة العربية السعودية قد قطفت ثمرة نجاح حين اختيرت من قبل قادة الـ (G20) لتستضيف على أرضها القمة التي ستقام في العام 2020، ويبدو لي أن هذا الاختيار يأتي أيضاً فارضاً نفسه على التغيرات المستقبلية التي لاحظناها في القمة، وهي عناوين للمرحلة القادمة.
وهذا الحدث الاقتصادي العالمي يعد إنجازاً ودليلاً على قوة المملكة في المشاركة الاقتصادية وحيزها، ومشاركتها على صنع القرار الاقتصادي العالمي والتأثير فيه كونها سوقا لها قوتها التي جعلت منها إحدى الدول المشاركة في أكبر محفل يضم كبراء قادة العالم الصناعي والمتحكمين فيه.
وعلى المملكة أن تفرض نفسها وسياستها وفق مصلحتها، بين قادة الدول الصناعية الكبرى بما يحميها ويحمي اقتصادها واقتصاد المنطقة، فالقمة الفائته علمتنا درساً مفاده أن مصالح تلك الدول هي الأولوية التي توجب اختلافهم واتفاقهم معاً، وفي ظل المصالح الأحادية يجب أن يؤخذ هذا الأمر كأولوية أيضاً لتثبت المملكة العربية السعودية قدرتها على المشاركة في رسم سياسة الاقتصاد العالمي كونها طرفاً أساسياً.