عندما نتكلم عن مكتبة المستقبل ما الذي يتبادر إلى ذهنك؟ هل تفكر في شكل مبنى المكتبة وفراغات القراءة أو أرفف الكتب أم تفكر بتجربة القراءة الشخصية وعلاقتك مع الكتاب أيا كان شكله في المستقبل؟ وما بُعد المستقبل الذي تفكر فيه؟ في السنوات القليلة أصبح الكتاب المسموع والكتاب الرقمي يزاحمان الكتاب التقليدي المطبوع ومن المتوقع أن تطرأ تغييرات أخرى عليه مستقبلا. حتى المكتبات تحولت عالميا من أماكن هادئة ومنغلقة إلى مساحات اجتماعية وأقل تكلفة.
و مع هذا كله فمكتبة المستقبل التي أكتب عنها هنا هي من نوع آخر وهي بدون أدنى مبالغة مكتبة القرن الثاني والعشرين. هذه المكتبة حية تنمو وموقعها بالقرب من غابة في أطراف العاصمة النرويجية أوسلو حيث تتكون المكتبة من ١٠٠٠ شجرة (مربوطة بشرائط حمراء) تمت زراعتها قبل ثلاث سنوات فقط.
فكرة هذه المكتبة جاءت كمشروع فني ثقافي من قبل الفنانة الأسكتلندية كايتي باترسون (Katie Paterson) التي تمتاز مشاريعها باستخدام الزمن والطبيعة كعناصر لها. كل سنة سوف يطلب من كاتب أن يقدم نصا حصريا لهذه المكتبة إلا أن هذا النص لن ينشر إلا عام ٢١١٤ وسيطبع على ورق صنع من الألف شجرة التي زرعت عام ٢٠١٤. فبدلا من أن يجهز الورق لاستقبال النص، ينتظر النص جاهزية الورق. أول كاتبة اختيرت كانت الكندية مارجاريت أتوود (Margaret Atwood) (وكتابها Scribbler Moon) تلاها الكاتب البريطاني ديفيد ميتشل (David Mitchell) (وكتابه Cloud Atlas) واختير مؤخرا الكاتب الآيسلندي ذو الاسم المختصر سيون (Sjón) لتقديم نص لن يقرأ إلا بعد ٩٧ سنة.
أحيانا يتسم التحدث إلى غريب بالصراحة والعمق والحرية بسبب بعد الشخص عن حياتنا وقصر مدة التواصل. نتجرأ بالبوح بما قد لا نصارح به أقرب الناس فماذا عن كاتب يكتب لجمهور يعيش بعد ١٠٠ عام؟ لو نظرنا ١٠٠ سنة إلى الماضي لاستشعرنا الفروق الواضحة بيننا الآن وبين تلك المجتمعات التي سبقتنا بمائة عام. ولكن كيف لشخص أن يستشعر هذه الفوارق وهو ينظر إلى المستقبل؟.
فبعد ١٠٠ سنة كيف سيعيش الناس وما التقنيات التي سوف تكون سائدة وهل سوف تستمر طباعة الكتب أصلا؟ كذلك اللغة وأسلوب التعبير متوقع أن يطرأ عليهما تغيير قد يستدعي بعض الترجمة لمفاهيم دارجة في وقتنا قد تندثر مستقبلا. كيف تحادث جمهورا لا تعرفه؟ إنها معضلة لا يضطر غالب الكتاب للتعامل معها فهم إن عرفوا أن كتبهم باقية من بعدهم فإنهم يكتبون لجيلهم المعاصر لزمنهم.
وإن كُنتُم بعد كل هذا تتساءلون عن السبب الذي يبرر مشروعا كهذا فانظروا إلى حياتنا المتسارعة لتجدوا الجواب. في النرويج بدأوا بمبادرة لتقليل سرعة الحياة وهو موضوع مهم سوف أتناوله في مقال مستقبلي (قبل أن تنقضي المائة سنة). بالإضافة إلى ذلك فإن مكتبة المستقبل بمثابة كبسولة زمن للأدب وتعبير عن أهمية ارتباطنا بالبيئة. في مكتبة المستقبل تجتمع أهداف ذات قيم إنسانية سامية لتذكرنا بما نوشك أن نفقده الآن.