مدننا « فقدت هويتها» هكذا يقال ولكنني لم اقتنع. ما الذي فقدته بالفعل؟ هل هو التجانس بين المباني؟ أم النسيج العمراني؟ أم الصورة الذهنية أو المتخيلة لماضٍ لا يعرفه إلا من عاصر فترة ما قبل الحداثة؟ أم أن الهوية التي يتكلمون عنها مرتبطة بالترابط المجتمعي الذي فقد بشكل كبير؟ سياق فقدان الهوية إن أجمع على الفقدان، لا يجمع على الأسباب. وبدلا من البحث والجدل العلمي يتعثر ويضيع مرارا في زاوية الحنين إلى الماضي والتحسر على المفقود.
قد تكون مدننا في السبعين سنة الماضية مرت بتحولات من أبسطها التوسع الهائل وما ترتب على ذلك من توفير شبكات الطرق والبنية التحتية، وهذا التغير يولد إحساسا بفقدان السيطرة على ما يدور من حولنا؛ كون تلك التحولات كانت سريعة نسبيا. ومع ذلك لا أعتقد أننا فقدنا هويتنا. تغيرنا ودوام الحال من المحال ولكن تغيرنا بإرادتنا. ألم نكن نحن من استوردنا الحداثة في التخطيط العمراني والهندسة المعمارية؟ اشتريناها برغبة منا بإيجابياتها وسلبياتها. فتحنا أبوابنا لكل ما هو جديد واستمتعنا بالحداثة كنقلة نوعية لأسلوب معيشة.
أثناء دراستي الماجستير والعمل الميداني لرسالتي قابلت سيدة كانت تصف بيتها القديم وتقارنه بالجديد. توقعت أنها سوف تتكلم بأسى عن فقدان بيتها التقليدي وكوني قرأت كل ما هو متوفر عن تمثيل الحقب الماضية برومانسية بعيدة عن الواقع كنت أنتظر منها الحنين. إلا أنني تفاجأت عندما بدأت تتكلم وعيونها تبرق وهي تحدثني عن دخول الثلاجة بيتها والمكانة المرموقة التي كانت لها حيث وضعت في المجلس. استطردت بالحديث عن التكييف واختفاء الفناء ولم اجد ردة الفعل المتوقعة. عندها سألتها: ألم يكن البيت التقليدي أفضل وأجمل وأكثر ملاءمة و..و.. و؟ صدمتني بأنها قالت: لا، فهي في الفناء تكنس التراب من فوق التراب والغبار يدخل كل مكان ولا يقارن بنظافة الجديد. أدركت حينها أنه من السهل أن نحبك قصة واحدة وننسبها للكل ومن هذا المنطلق اختلف مع من يقول إننا فقدنا هوية المدينة.
التحولات الحضرية وما ترتب عليها من تغيرات اجتماعية هي جزء لا يتجزأ منا الآن. شكلنا مدننا
وبالتالي شكلتنا. فما الذي جاء أولا؟ إن تخطيط مدننا بدأ ببساطة ودون تعقيد كما كانت بيوت الطين تشيد. يأتي «الاستاد» ويخط بقدمه خطا في التراب. يا ترى هل ابتعدنا عن هذا النموذج كثيرا؟ بالرغم من الضوابط التخطيطية لا نجدها مطبقة بصرامة وبالرغم من وجود مخطط هيكلي في حاضرة الدمام لا نجد لها مخططا استراتيجيا يحل مشاكلها الحضرية ويوجه نمو المدينة آخذا بالاعتبار أهداف التنمية.
حلولنا وقتية ومحدودة جغرافيا بحيث أصبحت حاضرة الدمام مرقعة تخطيطيا كل حي مختلف عن الآخر وتميزه بالفعل ليس تميزا بل فقط تغيير. مدننا لم تفقد هويتها بل مثلت بشكل واضح وصريح هوية سكانها. نريد كل شيء بسرعة ولا ندقق في التفاصيل ولا نخطط بهدوء ونسلم أمورنا لغيرنا ونحاول أن نحل مشاكلنا من خلال رمي المزيد من الأموال عليها دون صرفها في الحلول طويلة المدى. هذا التخبط انعكس جليا في مدننا، فبأي حق نقول إنها لا تمثلنا؟