أحد الموقوفين الذين كان من المتوقع أن يشملهم تسديد ديونهم في المبادرات الأخيرة في عدد من مدن المملكة، كان المبلغ الذي أخبر عنه أهلَه فوق الأربعين ألفا، وبعد التحري، وجد أن عليه ما يزيد على مائة وثمانين ألفا، ثم تنازل بعض أصحاب الديون ليصبح الرقم مائة وخمسين ألفا، وحين حان وقت السداد ظهر أن عليه ثلاثة شيكات أخرى بلا رصيد؛ مما يعني دخول القضية في مضيق (القضايا الجنائية)، وبهذا تعذر اكتمال فرحته وفرحة أهله وفرحة من رغب في إخراجه وسداد الدين عنه، وبات أطفاله الأربعة أيتاما لأب حيّ كميت (الاقتراض عادة أكثر منه حاجة).
• قبل عشر سنوات كنت أعرفه شابا، أصبح الآن كهلا، كل شيء تغير فيه غير شيء واحد، هو أنه موظف طوال تلك السنوات، ومدين باستمرار (وكأنه لا يرتاح- نفسيا- دون أن يقترض)، يتمتع بجسد قوي فتي، يستثمره في الوقوف على أبواب أصحاب الهيئات ليطلب منهم ما يسدد به ديونه، أو يجهز به أولاده للمدرسة.
• لم يبق أحدٌ من معارفه الذين (يمون عليهم) إلا أخذ منه مبلغا من المال، بحجج شتى، ثم استطالت يده إلى خارج دائرة (مَن يمون عليهم) فانتهى به الأمر إلى السجن عدة مرات، والشتات الأسري!! (يتمتع بالنقد الذي يتدفق في يديه، ولا يحسب للمآلات حسابها).
• لا تمرُّ به إجازة طويلة إلا سافر فيها، والأثاث الفاخر المتجدد يملأ أرجاء منزله، ولا تَسَلْ عن نوع السيارة التي على الباب، والجوال الذي يلاحق آخر المستجدات، وكثيرا ما تسمعه يقول: (وسع صدرك؛ ترى الدنيا رايحة)، كل ذلك من القروض التي عصفت براتبه، وباستقراره المالي، وبمستقبل أولاده، إذا لم يلطف بهم ربهم.
• حمَّلها كافة تكاليف التربية، لأنها (أم)، فهي المسؤولة الوحيدة ـ في منطقه الغريب ـ عن التربية، ثم حمَّلها نصف إيجار المنزل، ثم رفض أن يعطيها مصروفا كافيا لها ولأولادها، وكلما قالت له: من أين أنفق على أولادك؟ أجابها: (دبري نفسك، ما عندي)، حتى اكتظ قلبها بمشاعر الحيرة والألم والحسرة، وبدأ الحبُّ يغادر جزيرتها، وتجمدت القرارات في شفتيها؛ فلا هي قادرة على تركه فتشتت أولادها، وتهدم عشها، ولا هي قادرة على العيش مع أخرق، لا يحسن تدبير منزله.
الحالات أكثر من أن تنثر هنا أو هناك، مما يشير إلى الأهمية البالغة لتغيير بوصلة التعامل مع (المال) عند أكثر الناس، وخاصة الجيل الجديد، الذي أصبح يركض وراء ما لا يستطيع الوصول إليه، أكثر من استثماره ما يتوافر بين يديه، تعوَّد على أن يقترض أكثر من تعوده على أن يدخر، فشل حتى في الاستهلاك، فهو لا يعرف كيف يختار السلع إلا على أساس الشكل، ولا كيف يتعامل مع الأزمات إلا بمزيد من الاقتراض.
أسباب الديون كثيرة؛ بصرف النظر عن مقدار الدخل، وأبرزها: عدم التدبير الحكيم للدخل، قليلا كان أم كثيرا، وعدم الادخار، فالحكمة الجاهلة تقول: (اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب)، والانسياق وراء إغراءات باعة السيارات (الديَّانة) الذين أصبحوا يأخذون من ضحاياهم 100%، والسقوط في حبائل إغراءات القروض البنكية، وبعض المتاجر، ولنا أن نتخيل أن يهدي أحد أصحاب الدخل المحدود جدًا.. أولاده الصغار ثلاثة جوالات من النوع الثمين، عن طريق التقسيط!!
الحاجة للتوعية المالية الفردية أصبحت ضرورة في زمن الرؤية الاقتصادية الحازمة (2030)، فالأفراد يمثلون المجتمع كله.