دور المجتمع اليوم في بناء مجتمع مدني واع مترابط، ليس له أثر يذكر، فالوطن العربي يرزح تحت جهل بسيط ومركب وعصبيات متنوعة وبطالة وفقر بصور ونسب متفاوتة، ليس لها مثيل، ووطن تتوغل فيه تلك الأجواء، لن ترى له أثرا في تحقيق معطيات المجتمع المدني، أو حتى دعم أركانه، أو إرساء معالمه.
والمثقف في عالمنا العربي ليس بمنأى عن اللوم في هذا السياق، لأن العبء الأكبر في هذا الصدد عليه، وهو عبء لن يستطيع القيام به، إلا إذا تخلّى عن مناقشته العقيمة، وأفكاره المثالية؛ فحلول مشاكلنا، ليست في بطون الكتب، ولا في الصالونات الثقافية؛ وإنّما في العمل الحقيقي بين الناس.
ايجابية المجتمعات والمشاركة بفاعلية في صنع الحاضر، والتخطيط لمستقبل مشرف لنا وللأجيال من بعدنا، لن تنهض على بقاء تلك الأجواء ولا على اجترار خصومات تاريخ مضى، ولا على الأماني والتسويف والغفلة.
إن مجتمعات الوطن العربي في أغلبها غائبة عن حقيقة مفهوم المجتمع المدني، بأركانه ومتطلباته، فهو غير متداول عند الناس، على الغالب الأعم؛ ولذلك أسباب، من أهمها عدم اهتمام المثقّفين في بلادنا، بطرح موضوع المجتمع المدني، للدراسة والمناقشة، كجزء أصيل من دراسة الفكر، كما أن عدم اكتراث الأنظمة بالمجتمع المدني سبب آخر، يعمق عدم الإلمام بالدور الحقيقي للمجتمعات، فلا نرى إلا صورا شكلية تكمل بها مؤسسات المجتمع دون مشاركة حقيقية، حتى غلب على قطاع كبير من الشعب أنّه لا يمكن التغيير وهذا الإحباط سبب آخر لعمق العجز.
إذا أردنا تحقيق مجتمع مدني، تكون العلاقة بين مؤسّساته، مبنيّة على الترابط والحبّ، يجب أن نقيم المشاركة الحقيقية داخل المؤسسة كما نقيمها بين الأسرة الواحدة، وكذلك نقيم جسور التواصل الواعية بين المؤسّسات التي تندرج تحت المجتمع المدني بعضها البعض، هناك سينجح مشروع المجتمع المدني الحقيقي، فلا تبنى تلك المؤسسات على الأثَرَة والمصلحة اللتين لن تتحقق في ضوئهما الوحدة والانسجام حتى ولو كانت المصلحة تخص قطاعا كبيرا، لأن الأساس الذي قامت عليه، هو عامل على الأقل فشلها.
فمن الضروري قيام مؤسسات المجتمع المدني، على المبدأ نفسه الذي تقوم عليه الأسرة، وهو مبدأ الحبّ والتعاون والمشاركة الحقيقية والترابط.
كما أنّ الدعم الذي ينبغي أن تقدّمه أي دولة تؤمن بأهمية المجتمع المدني، ودوره البارز في النهوض بالبيئة المجتمعية نحو مجتمع أفضل، ليس مجرّد السماح لمؤسسات المجتمع المدني بأن تنشئ لها كيانا قانونيا، أو مجرّد وضع قوانين شكلية، تؤيد قيام مؤسسات تابعة للمجتمع المدني؛ وإنما الدعم بشقيه الفنيّ والمادي.
أما الفني فبتقديم أوجه الدعم، من الناحية الإدارية والتنظيمية، وتيسير الإجراءات التي تسمح لأعضاء مؤسسات المجتمع المدني، بأن يقوموا بدور فاعل في المجتمع.
وأما المادي فبتزويد المؤسّسة، عند الضرورة القصوى، بالمساعدات المادّية، التي تعينها على أداء مهامّها، دون أن يترتّب على ذلك خضوع المؤسّسة لتحكم الدولة، تحركها كيف تشاء، وإلّا فقدت قيمتها ودورها.
إن على الدولة أن تعي أنّ المجتمع المدني بمؤسّساته، كالطفل الصغير، في حاجة إلى رعاية واهتمام، وتأديب لا قهر؛ فإذا نظرت الدولة للمجتمع كذلك، وأيقنت أنّ قوّته وتماسكه، قوة لها، واهتمت به ورعته، فقد أخذت بمسالك التقدّم لتحقيق المراد، فليس صوابا أن تتعامل الدولة مع المجتمع المدني بطريقة التحكم فيه، للاعتقاد بأنها تمارس حقها في إدارة المجتمع المدني والمجتمع عامة، لأنّ تجاوز المجتمع المدني في الحقيقة، يعني أنّنا تحت طائلة نظام تسلّطي ينتهي بخسارة المجتمع وأفراده.