تتبوأ الخبرة مكانًا مهمًا وتؤدي دورًا بارزًا في معاونة القضاء في الوصول إلى إثبات الحقوق المتنازع عليها وتحقيق العدالة، نظرًا لكونها إحدى طرقِ الإثبات المباشرة، ولذا يعتمد القضاء على الخبرة في بعض القضايا التي تنظرها المحاكم وترى بشأنها ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص حتى تتمكَّن من تكوين عقيدتها في الجوانب والمسائل العلميَّة أو الفنيَّة أو التقنيَّة أو غيرها، والتي تتجاوز حدود علم ومعرفة القضاة، وتستوجب ضرورة اللجوء لذوي الخبرة والاختصاص ممَّن يمتلكون الكفاءات والخبرات المتراكمة، من أجل الاستعانة بآرائهم بصدد بعض المسائل المتعلّقة بالنزاع المطروح، حتى يسهل البتُّ والفصلُ فيه.
ويعني هذا أنَّ لجوء المحكمة إلى الخبرة الفنيَّة يكون بهدف الحصول على معلومات جوهريَّة حول المسائل الفنيَّة - التي تتَّسم في بعض الأحيان بأنَّها معقدة وشائكة ومتشابكة - المراد إثباتها للوقوف على حقيقتها من الناحية الفنيَّة عبر خبير أو أكثر ممَّن يتمتَّعون بالكفاءات الفنيَّة في مجال اختصاصهم والتي لا تتوافر لدى القضاة، بغرض الكشف عن بعض الأدلَّة أو تدعيم وتعزيز الأدلَّة القائمة والثابتة لدى المحكمة، حيث تقوم الخبرة بتقديم تقرير كافٍ ووافٍ بشأن المسائل الغامضة أو المعقدة محلِّ النزاعِ.
والقائمون بأعمال الخبرة هم مجموعة من الاختصاصيين والخبراء كلٌّ في مجاله، وهم في الأصل مجموعة من الأشخاص الطبيعيين، ولكن هذا لا يعني أنَّ أعمال الخبرة تقتصر عليهم فقط، إذ يمكن أن يقوم بأعمال الخبرة بعض الأشخاص الاعتباريين، مثل بيوت الخبرة الأجنبيَّة أو المحليَّة.
وهم في الوقت ذاته غير موظَّفين في المحكمة، بل هم أشخاص مكلَّفون بأداء مهمَّة أو خدمة عامة تساعد القضاة في إيضاح واستجلاء الغموض والريبة عن بعض المسائل التي يصعب عليهم عادة الإلمام بمضامينها وأبعادها وفحواها، حتى يتمكَّنوا من الفصل في تلك المسائل بعد استجلاء الغموض وكشف الحقائق الخافية عبر هذه الخبرة.
وقد أثبت الواقع أنَّ اللجوء إلى الخبرة الفنيَّة أصبح يتنامى شيئًا فشيئًا في الآونة الأخيرة على إثر التطورات الهائلة والمتسارعة في شتَّى الأنشطة والمجالات والعلوم والمعارف، والتي يصعبُ على غير المتخصّصين سواء من القضاة أو من غيرهم الإلمامُ بها ومعرفةُ مضمونها والوصولُ إلى الحقيقة الخافية حتى يمكن الإقرار بالحقِّ المتنازع عليه لصاحبه والفصل في الخصومة.
وإذا كان القضاة قد أُجيز لهم اللجوء إلى الخبرة الفنيَّة، فإنَّ هذه الإجازة مشروطة بوجود ضرورة ومبرِّر ومقتضًى للاستعانة بهذه الخبرة، بحيث لا يتم التوسع في الالتجاء إليها دون مبرّر، حفاظًا على سير العدالة. بمعنى أنَّ لجوء المحكمة إلى الخبرة لا يكون إلَّا عند عدم مقدرتها على إدراك مسألة أو أكثر، أو عندما تكون الأدلَّة المقدمة في هذه الدعوى غير كافية على توضيح تلك المسألة التي يتنازع عليها خصمان أو أكثر. وبالتالي فلا يجوز اللجوء إلى الخبرة في الوقائع الواضحة والجليَّة والتي لا تكون محلَّ نزاعٍ أو خلافٍ.
وجديرٌ بالذكر أنَّ لجوء المحكمة إلى الخبرة الفنيَّة يكون قاصرًا فقط على المسائل الماديَّة البحتة، أما المسائل القانونيَّة التي يُفترَض علمُ القاضي بها فلا يمكن بصددها اللجوءُ إلى الخبرة لأنَّها تدخل في صميم أعمال القاضي واختصاصه، والتي لا يجوز له تفويض شخص آخر من الخبراء للقيام بها.
وقد عني نظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/1) وتاريخ 22 /1 /1435هـ، بالخبرة ونظم سبل الاستفادة منها، حيث نصَّت المادة (128/1) على أنَّه: «للمحكمة عند الاقتضاء أن تقرِّر تكليف خبير أو أكثر، وتحدِّد في قرارها مهمَّة الخبير وأجلًا لإيداع تقريره وأجلًا لجلسة المرافعة المبنيَّة على التقرير...».
وسوف نكمل الحديث حول بعض الجوانب النظاميَّة للخبرة في المقال القادم إن شاء الله تعالى.