قبل أن أدلف إلى المقارنة بين فاعلية التعليمات الجاهزة وعناصر الحياة الواقعية، أود أن أسرد قصة قديمة من ثقافة «الزن»: يُحكى أنه كان يوجد في بلاد من الشرق الأقصى معبدان متنافسان؛ وكان القائم على كل منهما «كاهن المعبد» كارهاً للمعبد الآخر. لذلك كان كل منهما يوصي أتباعه ألا ينظروا إلى معبد الآخرين إطلاقاً. وكان لكل كاهن صبي يخدمه في الإتيان بالأشياء التي يحتاجها من خارج المعبد، أو في أي مأمورية يرسله فيها. فقال كاهن أحد المعبدين لصبيه: «لا تتحدث مع صبي المعبد الآخر، فأولئك الناس خطيرون جداً»؛ لكن الأطفال هم الأطفال؛ ففي إحدى المرات شاهد صبي المعبد الأول الصبي الآخر، فقال له: «إلى أين أنت ذاهب؟»، فرد عليه صبي المعبد الثاني: «إلى حيث تأخذني الريح»، وهي عبارة تأثر بها الصبي من تعليمات الزن، حيث تعبر عن التاوية الصافية في تفويض الأقدار بالتحكم في مسار الأفعال.
وبقي صبي المعبد الأول محرجاً مع شعور بالتهميش وضعف الحيلة، كما كان محبطاً وشاعراً بالذنب، لأن سيده كان قد نهاه عن أن يتحدث مع منسوبي المعبد الآخر، وبقي يحدث نفسه: «الآن أي نوع من الإجابات هي هذه العبارة التي أجاب بها قرينه في ذلك المعبد؟» فقد أهانه بتلك الإجابة، وأشعره بالتفوق عليه. فذهب إلى سيده، وأخبره بما حدث، قائلاً: «آسف أني تحدثت إليه، وأنت محقّ؛ فهؤلاء الناس غريبون. لكن ماذا تعني إجابته تلك؟ فأنا سألته سؤالاً بسيطاً عن وجهته التي يتجه إليها، وأنا أعرف أنه ذاهب إلى السوق، مثلما أني ذاهب أيضاً إلى السوق، لكنه رد بأنه ذاهب إلى حيث تأخذه الريح».
فأجابه سيده الكاهن: «لقد حذّرتك منهم، لكن لم تستمع إلي. فالآن اسمعني، إذا ذهبت غداً، فقف في نفس المكان الذي رأيته فيه اليوم، وإذا مرّ من هناك، فاسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ وسيجيبك بقوله: إلى حيث تأخذني الريح. عندئذ كن أكثر حنكة، وعلّق على جوابه بمزيد من الفلسفة: إذا لم يكن لك أرجل، فكيف يكون ذلك، لأن الروح ليست حسية، والريح لا تستطيع أن تأخذ الروح إلى أي مكان! ما رأيك بذلك؟».
أنا جاهز فعلاً للانتصار عليه؛ فبقي الصبي طوال الليل يردد تلك العبارات، ويعيدها مراراً وتكراراً. وفي الصباح التالي، انطلق إلى حيث يتوقع رؤية الصبي الآخر مبكراً؛ وفي الوقت المماثل لليوم السابق أتى الصبي من الطريق نفسه. فكان الصبي الأول سعيداً، فهو الآن يستطيع أن يظهر له ما هي الفلسفة الحقيقية؛ فسأله: «إلى أين أنت ذاهب»، وانتظر الإجابة. لكن الصبي الثاني أجابه: «أنا ذاهب لأحضر خضاراً من السوق». فأسقط في يد الصبي الأول؛ فماذا يصنع الآن بالفلسفة التي تعلمها؟
نخلص من القصة إلى أن الحياة ليست عناصر محفوظة، بل هي مواقف متغيرة، وفي كل موقف منها ما يناسبه من المبادئ والتكتيكات والأقوال والأمزجة. فلا يستطيع المرء أن يكون جاهزاً لأي من عناصر الواقع فيها، ولا تفيد في التعامل معها الآراء المقولبة، أو ما يظنه أصحاب الهيمنة على أفكار الناس صالحاً في كل زمان ومكان. وهذه هي أسرار الجمال في الحياة؛ أي كونها متغيرة، ولا تستقر على حال، وتعطي مزيداً من البهاء لمن يتوخى التجدد فيها.