هناك بعض الأفكار، التي تبلورها اللغة على غير ما هي عليه في واقع الأمر، ومنها ما يكون حاملًا لقيم مختلفة عما يؤخذ من دلالات العبارات المستخدمة في صياغتها. ومن القضايا الشائكة في اللغة العربية، أنها تملك عددًا كبيرًا من العبارات الاصطلاحية، على غرار العبارة الواردة في عنوان هذه المقالة؛ وتتوارثها الأجيال بفهم مختلف من عصر إلى عصر، أو من بيئة إلى أخرى، وأحيانًا حتى من فرد إلى آخر، حسبما يتيسر له من استخلاص دلالاتها من معجمه الذهني، وقدرته على استخدام اللغة.
ففي هذا الحقل الذي تستخدم فيه هذه العبارة الاصطلاحية، يتوسع الناس في استدعائها، لكونها تتضمن كلمة «الوسط»، فيستنبط من يخفق في توظيفها، أن الوسطية المقصودة هي عدم التطرف في الشيء، الذي تلحق به العبارة في استخدام مجازي. لكنها لم تكن تدل في أي عصر من العصور على هذه الدلالة مطلقًا؛ بل لم تتجاوز مجال تعامل السلطات أو القاضي أو من يكون حكمًا في أمر من الأمور، لكي يكون «على مسافة واحدة من الجميع» (باستخدام العبارة الاصطلاحية في عالم السياسة اليوم). وقد يجري استخدامها أيضًا في الإطار العائلي؛ لكن في التعبير عن سلوك من له سلطة في العائلة كالأب أو الأم في تعاملهما مع أولادهما، وعدم استخدام الشدة أو اللين المفرط، أو حتى في تعاملهما بعدل مع اختلافات الأولاد. أما توسيعها لتدل على مرونة الشخص أو تقبله للآخرين المختلفين معه، فليست شائعة في الاستخدام اللغوي؛ مثلما أن هناك عبارات اصطلاحية أخرى تدل على هذا السياق بالذات.
استمعت إلى برنامج إذاعي في إحدى محطات الإف إم، وكان الحديث فيه عن قضية التعصب الرياضي، وطرق التخلص منه أو نشر مفهوم التسامح مع أصحاب الميول الرياضية الأخرى. فلفت نظري استخدام المذيع لتلك العبارة الاصطلاحية بوصفها تدل على تسامح مشجعي بعض الأندية في الملعب مع المنتمين إلى أندية أخرى، ووقوفهم جميعًا بألوانهم المختلفة في مؤازرة المنتخب عندما كان يلعب في التصفيات الآسيوية مع فرق أخرى، دون أن يكون هناك احتكاك بين فئات المشجعين المختلفين، كما كان يحدث في مناسبات مماثلة سابقة. ووجدت أن جميع من اشترك في تلك المحاورات قد استساغ هذه العبارة الاصطلاحية في هذا السياق، وأصبح يردد أشكالًا مختلفة من صياغاتها، وكأنها في استخدام مناسب ومعروف في هذا الحقل.
بالطبع سيرفع بعض طلبتي الآن أصواتهم قائلين: وماذا في الأمر، إذا كان الجميع قد فهموا دلالة هذه العبارة الاصطلاحية؟ ألست دائمًا تذكر لنا، أن اللغة كائن حي، وقابلة للتطور في دلالاتها، واستخدام عناصرها وفق ما يريده المجتمع الذي يتكلمها؟ وأقول: نعم، فكرة التطور قائمة وسليمة، لكن ذلك يتم عندما يكون الاستخدام شائعًا في أي عصر من العصور؛ لا أن يلجأ كل متحدث أو كاتب إلى ابتكار دلالات مختلفة حسبما يراه من قرب الكلمات مما يدور في ذهنه من أفكار، وإلا لأصبحت اللغة مطاطة، لا يتفاهم الناس بها بدقة مطلوبة لاستمرار نقل الأفكار بأمانة. وربما كانت هذه الضبابية أحد أسباب وصف مجتمعنا بالوسطية، لأن بعض مروّجي هذه الفكرة تتساوى عنده القضايا المكانية مع التصورات المبدئية، في عدم التطرف والذهاب في السلوك إلى أقصى طرفي العصا المذكورة أعلاه.