يقيم في ذاكرتي كما تقيم غيمة فوق روابٍ خضر تسبح في نضارة وبهاء..
كأنني اتفقت مع الموت.. منذ أن غيبه عن ناظريَّ ألا يغيبه عن روحي وقلبي..
كثيرا ما أحنُّ إليه وأعيش مع ذكراه ولا أبوح بذلك لمن حولي.. حتى لا أعود إلى حضوري وشهودي الذي ليس معه سوى الفقد الحاد، الذي لا يقبل التفاوض..
حتى هديَّتُه التي اختارها لي بنفسه، وأتى بها إلى بيتي بنفسه، لا تزال أقربَ شيء إلى مخدتي.. لم أعترف بقدمها، ولم أتنازل عنها منذ سبع عشرة سنة..
جزء من شخصيتي.. من لغتي.. من عمري.. تخلق في تلك الفترة الزاهرة من حياتي.. التي التصقتُ به فيها، في حِلِّه وتَرحاله، وتفردت منه بمجالسَ تُضاهي مجالس الأحدية التي كانت تضم معنا عشرات..
كيف أشكرك أخي الكريم ـ د. خالد الجريان ـ على فتح هذه النافذة على روضة ليست غريبة عني، بل أنا منها وهي مني، لأقول كلمة أحب أن أقولها في هذه الصرح الأدبي الذي تشرفت بالمشاركة في وضع لبناته الأولى وقواعده الأساس مع صاحبه شيخي وأستاذي الشيخ أحمد آل الشيخ مبارك رحمه الله تعالى.
(الأحدية).. لم تكن مجلس سُمَّار، بل حلقة سمنار، ولم تكن مجرد اجتماع، بل كانت منبع إبداع، ولم تكن لإزجاء الأوقات، بل لاستثمار الحياة.
كم نبتةٍ فيها تبرعمت أُولى زهراتها، وكم شجرةٍ ظليلة حطت ثمراتها لروادها من أغصانها، وكم قلوب تآلفت بين جنباتها، وكم فكرة انطلقت منها فكانت قصيدة.. رواية.. قصة.. رسالة علمية.. مشروعا علميا.. وأكثر..!! (الأحدية) جامعة في قاعة، وكليات تموج فيها جميع التخصصات، الطب والأدب والثقافة والشريعة والتاريخ... ما لي أُعدد.. لا أظن أن هناك عِلما إلا تناول أحدُ رواد الأحدية أو ضيوفها طرفا منه. هذا السفر الذي أصر كاتبه على أن يهبَ نصفه لسرد توثيقي تمهيدي، وترك النصف الآخر للحديث عن (الأحدية) حديث خبير قريب من صاحبها قرب الابن من الأب، إن هذا العمل يشير إلى قيمة هذا المجلس الأدبي في تحقيق هدف عظيم كنت أسمعه من أستاذي الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك، وهو: أن يجد جيل الأدباء والشعراء المعاصر الفرصة الكافية والمحفزة ليصقل مواهبه، ويجوّد نتاجه، بالالتقاء العلمي المكثف مع رجال العلم والأدب من أهل الأحساء، ومن غيرهم من العلماء والأدباء الذين تستقطبهم جامعة الإمام وجامعة الملك فيصل وجامعة الملك فهد وغيرها من مدارس ومؤسسات من جميع أنحاء العالم العربي، لتحدث النقلة التي شهد الجميع آثارها. وبطبيعة الحال فقد اختار الأخ الدكتور خالد الجريان المنهج التاريخي، أو ما يسمى (تأريخ الأدب)، وقدم ملفا موثقا له قيمته العلمية، وضم إليه عددا من المدائح والمراثي. وتجنب التحليل للموضوعات المطروحة خلال عقدين من الزمان، كما تجنب رصد الأثر الذي تركته الأحدية في مسيرة الأدب في المملكة العربية السعودية، ولم يستهدف استقصاء افتتاحيات الشيخ أحمد وختامياته وتعليقاته المبهرة خلال استماعه للمحاضرين والشعراء والأدباء، تلك الملح والنوادر والاستشهدات المبهرة، التي كانت تمثل الأدب الشفهي المفقود في الأسفار، لكنها موجودة في الأشرطة الممغنطة؛ تاركا الفرصة متاحة لشباب الجامعات ليدرسوها في أطروحة علمية، تستحقها (الأحدية).
وإلى لقاء يجمعنا بشيخنا على سرر متقابلين بعد طول عمر وحسن عمل..