عند خروجي من المركز الإسلامي بإيطاليا استوقفني شاب يبلغ من العمر 21 سنة وقال لي بعدما انتهيت من إلقاء محاضرة حول (مهارات التربية الإسلامية في البلاد غير الإسلامية)، فقال أحببت أن أتحدث معك عن الدمار التربوي الذي أعاني منه؛ بسبب والدتي، حتى تنشر تجربتي ليستفيد منها الناس، فأنا شاب ضعيف الشخصية مهزوز الثقة بالنفس متردد كثيرا في قراراتي بالحياة، ثم سكت وقال هل تعرف لماذا؟ قلت له: لا، لا أعرف، قال كل ذلك بسبب تربية أمي وأبي، فمنذ كنت صغيرا وهم يخافون علي من الانحراف ومصادقة أصحاب السوء لدرجة أنهم كانوا يحمونني 24 ساعة، ويتابعون صلاتي وصيامي والتزامي الإسلامي إلى درجة الوسواس من شدة خوفهم علي؛ حتى لا أنحرف، فكنت أكثر الأوقات في البيت ولا يسمحون لي بالتصرف وحدي أو باللعب مع أصحابي غير المسلمين، وكلما ذهبوا لمكان أخذوني معهم، حتى كبرت الآن وصرت لا أعرف كيف أتعامل مع المجتمع، أو مع الناس، أو حتى كيف أتعامل مع نفسي وذاتي. قلت له: إن الخوف الزائد والوسواس التربوي خطأ، فمن حق والديك أن يخافا عليك وأن يحرصا على حسن تربيتك ولكن من غير أن يحطموا شخصيتك أو يضعفوا ثقتك بنفسك، فالخوف إذا زاد عن حدة تحول إلى وسواس مدمر لشخصية الطفل فالحماية الزائدة تعني إلغاء لشخصية الآخر، قال هذا ما حصل معي، بل حتى رغبتي بالزواج انعدمت لأني صرت لا أثق بقراراتي ولا بنفسي، وصار عندي كره للدين وللصلاة بسبب عنفهم التربوي، قلت له: ولكنك شاب ناضج وطالما أنك عرفت أن تربية والديك كانت خاطئة فلا تستسلم لها، وابدأ من جديد بتقوية شخصيتك وحسن علاقتك بربك وعزز الثقة بنفسك، فقصة والديك مثل قصة الدب الذي يحب صاحبه ولما رأى الذبابة على أنفه وهو نائم أراد أن يطردها فضرب الذبابة على وجهه بيده الكبيرة فمات صاحبه من قوة الضربة، ولهذا قيل (ومن الحب ما قتل) فحب والديك لك وحرصهما على التزامك الديني صحيح، ولكنهما اتبعا أسلوبا خاطئا قتلا فيه طموحك وشخصيتك وثقتك بنفسك.
وانتهى اللقاء بعدما قدمت له وصفة في كيفية التعامل مع نفسه، ولكن هذا الشاب هو نموذج لما يوجد في كثير من بيوتنا اليوم، فالتربية الصحيحة أن تكون بين الحرص والحرية، وبين الترغيب والترهيب، فلا بد من اعطاء الأبناء فرصة ومساحة لأن يعيشوا الحياة وحدهم من غير تدخل الوالدين مع الإشراف عليهم من بعد، فقد أعطى الله لآدم فرصة أن يخطئ عندما دخل الجنة وأكل من الشجرة، بعدما أعطاه الأمر واضحا بعدم الاقتراب من هذه الشجرة، فتعلم آدم من خطئه كيف يتعامل مع الخطأ وتعلم كيف يقاوم شهوته ويقوي إرادته ويتعامل مع عدوه الشيطان في المرات القادمة. ونحن إذا حبسنا أولادنا ومنعناهم من الاختلاط بالآخرين، وفرضنا عليهم تربية مثالية أو ملائكية، وألزمناهم بتعاليم الإسلام بالقوة والعنف، فإنهم سيسمعون لنا ويطيعوننا في طفولتهم لأنهم مضطرون لمسايرتنا، ولكن إذا بلغوا سن الرشد فإنهم يتمردون علينا ويطالبون بالحرية، أو قد يتبعون أصدقاء السوء أو الأفكار المنحرفة انتقاما للتربية الوسواسية التي تلقوها في صغرهم، فلننتبه لذلك ولنكن متوازنين في تربيتهم، فخير الأمور الوسط.