ربما تكون كلمة «مشكلة» أو «مشكلات» ومرادفاتها أكثر المفردات دورانا على الألسن في عدد كبير من المجتمعات، خاصة عندما تصبح كيانات مدنية، إذ تفرض طبيعة الحياة نشوء بعض مواطن الخلل في تعامل الناس مع الأشياء، أو حتى بعضهم مع بعض. وتتناول حل تلك المشكلات من النوع الأول مبتكرات تقنية تتغلب على مواضع الخلل المسبب لأي من صعوبات التعامل، كما أوجدت المجتمعات البشرية للنوع الثاني عددا من القوانين العرفية أو المدنية يتفق مع تعقيد حياتهم، ومع الثقافة السائدة والتاريخ التراكمي لدرجات المشكلة وأبعادها، بغية التخلص من منغصات الحياة والعيش بسلام قدر الإمكان بين فئات المجتمع.
لكني سأتناول من جانب آخر الخلفيات، التي يمكن أن تصاحب نشوء المشكلة، والطرق الناعمة لحلها قبل أن تكون مشكلة أصلا. فالعقل البشري لديه إمكانات هائلة في تطوير آليات التعامل مع الأشياء ومع الناس بطرق إبداعية، لكن الناس غالبا– ولا يستثنى من ذلك إلا مجتمعات قليلة جدا– لا يلجأون إلى استخدام العقل بإيجابية قبل وقوعهم في شرك المشكلات، ولا يراجعون تصنيفهم لبعض الأحداث أو الحالات، التي يعدونها في إطار الخلل أو المشكلة. فالطفل منذ سنواته الأولى يطور قدرات مهولة للتغلب على ما يواجهه في حياته من صعاب محسوسة، أو عقبات في تعامله مع الآخرين. لكنه مع الوقت، وتكرار نصائح المقربين إليه في الأسرة والأصحاب والمدرسة، وتحذيرهم الدائم له بعدم عمل غير المعتاد، يبدأ في تكوين دائرة ما يظن أنه يسبب له مشكلات صحية أو نفسية أو أسرية أو اجتماعية أو قانونية. ومن هنا تصبح مفاهيم المشكلات المختلفة صناعة ذهنية، يسهم المجتمع في بعض جوانبها، وشخصية الفرد من خلال تجاربه مع من حوله، وظروفه التي يمر بها في جوانب أخرى منها. فهل المشكلات في أصلها وهم أم ثقافة؟
أظن أن المجتمعات البدائية في مراحل البشرية المبكرة لم تكن تعاني من مفهوم المشكلة، لأنها كانت تستخدم العقل بلا حدود في سبيل التغلب على الصعاب التي تواجهها، دون أن تتوقف عند تحذير أو مفهوم متوارث لتفادي الحلول، أو لتعطيل العقل في أي مرحلة من مراحل العمر للأفراد، أو أي ظرف من ظروف المجتمع بعد اكتساب الإنسان ثقافة العمل الجماعي. لذلك أرى أن مفاهيم «المشكلة» والفلسفات المرتبطة بها، وتقنينها بشتى وسائل الضبط العرفي والنفسي، جعلتها تحاصر عقل الإنسان، فأصبح ينظر إلى المشكلات قبل الشروع في أي عمل فردي أو جماعي. فتحولت إلى ثقافة تسيطر على ذهن الإنسان، وتقيد آلياته لبدء التعامل مع عناصر الحياة أو مع الآخرين. ومع زيادة تعقيد الحياة، وشدة التنافس بين البشر (أمما أو أفرادا بعضهم مع بعض)، صار لزاما على الأفراد أو المؤسسات– بوعي أو دون وعي– أن يفكروا في تلك المشكلات، وإن كانت مفاهيم مصطنعة قبل التفكير في الطاقة الذهنية لإنجاز الأعمال أو التعاملات. مما يعني التركيز على الجانب السلبي قبل عوامل التحفيز الإيجابية، وهو ما يؤدي بكثير من الخاضعين للأنساق الاجتماعية إلى التوقف عن الإبداع، وازدراء قدراتهم الذاتية، التي يمكن أن تكون كبيرة لو لم تكبل بتلك المفاهيم ورزمة المحاذير، التي تعيق الإيمان بتحقيق الإنجاز. لا أقول بعدم التخطيط، لكن قبل ذلك اكتساب الثقة في القدرة الذاتية!