صارحني بأن استثماره في هذه الحياة كان في أولاده، فبذل لهم مما جمعه من أموال؛ لاستكمال دراستهم، وتلبية احتياجهم، وكان الأهم هو ما بثه فيهم من همة عالية، وتشجيع لا حدود له لرسم المستقبل الوضيء بمهارة وتخطيط. لكن الأستاذ أحمد المغلوث الرسام والكاتب المعروف توقف فجأة وأخذ في منحى آخر، هو الثناء على زوجته التي يرى أنها هي التي تستحق الثناء والتخليد، لما صنعته مع أولاده ذكورا وإناثا، فكلهم نال الماجستير، وأما د. عبدالله فهو علم من أعلام الكتابة الرشيقة المُلهِمة، هذا هو النتاج الحقيقي الذي يفخر به الإنسان دنيا وأخرى، إذا حسنت النية وصح العمل. إن السر وراء كثير من النجاح في التأثير الوالدي تلك العلاقة الرقيقة الجميلة التي تربط بين الأب والأم والولد، التي عبر عنها ابنه الدكتور عبدالله في مقالته الجميلة: (يا حبيبتي) بقوله: «في أحيان كثيرة، لا تحتاج أمي وأمك إلى أشياء كبيرة. تحتاج إلى كلمة صغيرة نودعها في آذانهن وصدورهن لتضيء بهجة مثل: أحبك، أو تناديها: يا حياتي ويا عمري. لا تخدعك التجاعيد، التي تطفو على يد أمك. ففي داخلها طفل صغير يستيقظ إذا دللتها ودلعتها». وطبقها في موقف غاية في الرقة بثه في مقالته: (فستان أمي)، قال فيه: حزنت لأنني لم أفش مشاعري تجاه فستانها الجميل. لكن في اليوم التالي حاولت التكفير عن ذنبي، وإخماد وخزات تأنيب الضمير برسالة نصية موجزة...، قلت فيها «أمي، نسيتُ أمس أن أقول لكِ إن فستانك كان جميلا تصميما وألوانا. دمتِ لامعة كجوهرة»...لقد أمطرتني أمي جوهرة بعدة رسائل نصية جوابية. شكرتني كثيرا على الرسالة، والأجمل أنها روت لي قصة هذا الفستان بمتعة:... عشت معها رحلة هذا الفستان منذ أن كان بذرة حتى أصبح ثمرة. ومن خلال معارفه من الأمهات الباذلات، يقول والده أ. أحمد: أعرف أمًّا فاضلة كانت على قدر كبير جدا من الجمال وترملت وهي شابة ولديها عدة أطفال وبنات، وتقدم لها عدد من الخاطبين، بعضهم في مستوى عمرها، شباب وغير متزوجين. بل بعضهم يعدُّ من الأثرياء في مدينتي، ولكنها رفضتهم جميعا للتفرغ لتربية أبنائها وبناتها، رغم ظروفها الصعبة، وبحكم أنها كانت تجيد الخياطة فكانت تواصل الليل بالنهار في خياطة فساتين النساء وفتيات المدينة، وكم واصلت العمل وهي مريضة أو تعبة جدا لتسلم فستانا في الموعد المحدد. وكان ينطبق عليها قول من قال: يد تعمل ويد تطبخ وتربي، ونجح أولادها وبناتها وتخرج جميعهم من الجامعات والكليات بعضهم يحمل درجة الدكتوراة. الحقيقة، يا أستاذ أحمد أن هناك من ينادي تلك المرأة العظيمة التي كرمت يديها بالتربية والعمل الشريف في وقت معا، وتفانت في تربية أولادها أن تكف عن ذلك التفاني، وأن تهتم بنفسها ولو أهملت أولادها، وأن تغدق على ذاتها شتى ألوان الترفه والتنعم والانسياق خلف كل سوق وحفل وسفر، ولو كان الثمن مستقبل أولادها، ولنا أن نتوجس من جيل جديد كل حياته مطالبات بالملاذ والمتع والترفه، وهو صفر النفس من الهمة العالية، صفر اليدين من المهارة، صفر الحساب الشخصي من المال، أخشى أن يصبح صفر القلب حتى من المشاعر حتى نحو أقرب الناس إليه؛ لأن الحب مرهون بالإحسان.