لم تكن هذه الحقبة هي الأولى في تاريخ البشرية التي يمر فيها الدور الأوروبي بانكماش ظاهر مقارنة بما كان عليه الوضع في فترة استمرت زهاء أربعة قرون. فقد كان الأوروبيون مهيمنين على الحضارة البشرية بدءاً من ازدهار ثورتهم الصناعية، التي توالت فيها مراكز القوى، وتبادلوا السيطرة الاقتصادية ومعها الهيمنة السياسية والعسكرية على القارة الأوروبية وعلى العالم جميعا. حيث كان الهولنديون والبرتغاليون، ثم الاسبان ومن بعدهم الإيطاليون والفرنسيون والبريطانيون، سادة على أغلب بقاع الأرض. وقاموا بنشر سفنهم وجيوشهم، وصاحب ذلك أيضاً انتشار ثقافتهم ولغاتهم لدى شعوب كثيرة في قارات متعددة. وخلال النصف الأول من القرن العشرين تسبب الألمان في حربين عالميتين قضتا على الملايين في القارة الأوروبية وبعض الأطراف المحاذية لها، خاصة في شمال أفريقيا، وأدتا إلى تدخل الأمريكيين، الذين تقاسموا الهيمنة مع الروس على أوروبا خلال النصف الثاني من القرن الفائت.
لكن العقد الأخير من القرن الماضي شهد ضمورًا في الدور الأوروبي على الساحة العالمية، حيث ظهر جلياً في عدم قدرة الأوروبيين على ضبط الأمور في الجمهوريات اليوغوسلافية، عندما اندلع النزاع بينها، مما استدعى التدخل الأمريكي مجدداً لإيقاف تلك الحرب الأهلية المندلعة في تسعينيات القرن العشرين. كما عجزوا عن إيجاد قوات دفاع فاعلة لحماية القارة الأوروبية، ربما بسبب اعتمادهم على الذراع العسكرية القوية للحلف الأطلسي. وما حدث في نهاية القرن الماضي استمر في العقدين التاليين من هذا القرن، حيث عجزوا عن حلحلة الأمور في سوريا، بعد أن وقف الأمريكيون على الحياد في أزمتها. وعندما تدخلوا بمبادرة فرنسية - بريطانية في ليبيا، احتاجوا إلى مساعدة أمريكية، ولم ينجزوا المهمة بنجاح في ذلك البلد المحاذي لهم، والذي كان يشكل مصدراً مزعجاً لتهريب البشر من خلاله إلى أوروبا.
وقبل أن ينتهي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بدأت عوامل تفكك تظهر في الاتحاد الأوروبي، فقد أوشكت اليونان على الانهيار الاقتصادي، وأصبحت مهددة بالخروج من الاتحاد. كما صوّت البريطانيون على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهم في طور المفاوضات السياسية مع بقية أعضائه لإتمام عملية الخروج. فما من شك أن القوة السياسية والعسكرية للأوروبيين في حالة ضعف، ولا تليق بتاريخهم وقدراتهم العلمية، التي كانت السبب في بناء الحضارة البشرية الحديثة؛ لكن المشكلة تكمن في أنّ قوتهم الاقتصادية أيضاً على المحك في هذه الحقبة. فكثير من استطلاعات المستقبل، التي تقوم بها مراكز ذات خبرة كبيرة، تشير إلى أن الصين هي العملاق القادم، وربما تبقى الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الثاني خلال العقود الثلاثة القادمة، وأن الهند ستتبوأ المركز الثالث اقتصادياً. وفي تنبؤ لصحيفة الجارديان البريطانية ستكون البلدان الأوروبية بدءاً من المركز الثامن عالمياً، وربما يقبع بعضها خارج المراتب العشرين الأولى.
الخلاصة أن هذه الدورة في أزمنة التاريخ البشري ليست ممهورة بإسهامات أوروبية واضحة، والثابت من استقراء التاريخ المعروف، أن الحقب التي يتوارى فيها الدور الأوروبي تكون قاتمة في شؤون الإبداع والتفكير الفلسفي؛ بدءاً من اضمحلال دور اليونانيين القدامى، مروراً بانحسار الفنون في العصور الرومانية، وكذلك خفوت تأثيرات عصر التنوير، الذي قلب كثيراً من المفاهيم الإنسانية. فهل نحن مقبلون على عصر تطغى فيه الماديات على الإبداع والفلسفة؟